إن الحمدُ لله نحمده و نستعينه و نستغفره والصّلاة والسّلام على نبيّنا محمّد وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدّين.
أمّا بعد:
فإنّ من نِعَم الله جلّ وعلا علينا وعليكم تمتيعه لنا وإيّاكم جميعًا بنعمة الصّحة والعافية وإمهاله لنا في الأجل وإطالة العمر فنتقلّب في ذلك وندرك مواسم الطّاعات وأوقات الخيرات، وإنّا لنسأله سبحانه وتعالى باسمه الأعظم الذي إذا سُئل به أعطى وإذا دُعي به أجاب كما مدّ في أعمارنا إلى هذه اللّيلة أن يُبلّغنا وإيّاكم شهر رمضان المبارك وأن يجعلنا وإيّاكم جميعًا ممّن يصومه إيمانًا واحتسابًا فيُغفر له ما تقدّم من ذنبه، وممّن يقومه إيمانًا واحتسابًا فيُغفر له ما تقدّم من ذنبه، وممّن يُوفّق لليلة القدر ويقومها إيمانًا واحتسابًا فيُغفر له ما تقدّم من ذنبه؛ نسأل الله العظيم ذلك.
أيّها الإخوة الكرام: إنّه سيحلُّ علينا بعد ساعات هذه اللّيلة وإلاّ فاللّيلة القابلة، فهذا الشّهر العظيم شهر رمضان الذي هو أفضل الشّهور أنزل الله سبحانه وتعالى فيه القرآن على رسوله الأمين –صلوات الله وسلامه عليه-، وهذا الشّهر العظيم ليس هو شهر تفاخُرٍ في الأكل والشّرب ولا هو شهر تسابق في إعداد الموائد والتّوسّع فيها بل هو شهرٌ يتسابق فيه المتسابقون في طاعة الله جلّ وعلا، ويتنافس فيه المتنافسون في مراضي ربّنا جلّ وعزّ،ويُشمِّر إلى أنواع الطّاعات فيه عباد الله العارفون بما يجب عليهم وذلك أوّلاً بأداء الفرائض فيه؛ فالمحافظة على الفرائض هذا أحبُّ ما يتقرّب به العبدُ إلى ربّه تبارك وتعالى لقوله جلّ وعلا في الحديث القدسي الصّحيح
..وما تقرّب إليّ عبدي بشيء أحبّ إليّ ممّا افترضته عليه..)، ويتقرّب المؤمن فيه إلى ربّه جلّ وعلا بأداء الفرائض والواجبات ونبذ الكسل والتّهاون والتّقصير الذي قد يطرأ عليه في غير رمضان فيُحافظ على الصّلوات جميعًا جماعةً إلاّ من عذره الله كمريض ودنف أو مُسنّ أقعده العجز ونحوهم ممّن عذرهم الله جلّ وعلا، ثمّ يتبادر أيضًا إلى الذّهن التّوصية بهذا الشّهر ألا وهو الحفاظ على الصّوم فإنّ هذا الصّوم يجبُ أن يُحَافظ عليه فيصوم المرء عن الأكل والشُّرب والجماع وسائر المُفطِّرات من طلوع الفجر الثّاني إلى غروب الشّمس هذا هو الصّيام الحسّي؛ وهناك صيامٌ آخر ألا وهو الصّيام المعنوي فيصوم عمّا حرّم الله تبارك وتعالى عليه من سماع مُحرّمٍ ونظرٍ إلى مُحرّمٍ ويحفظ صومه من الغيبة والنّميمة وقول الزّور ونحو ذلك فقد صحّ ذلك عن رسول الله –صلّى الله عليه وسلّم- وعن أصحابه –رضي الله تعالى عنهم- فمن لم يدع قول الزّور والعمل به والإثم فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه هذا هو الصّيام الكامل الصّوم عن الطّعام والشّراب وسائر المُفطّرات ويصوم أيضًا عمّا يُنَقِّص صومه من هذه الأمور؛ صحّ عن أبي هريرة –رضي الله تعالى عنه- وعن بعض الصّحابة أيضًا كما ذكر ذلك عنهم أبو المُتوكّل –رحمه الله- أنّهم إذا صاموا قعدوا في المسجد قالوا: نحفظ صومنا لأنّ المساجد لها حُرمة فبحُرمةِ المساجد يُحفَظ الصّوم ذلك لأنَّ هذه المساجد لا يصلح فيها إلاّ قراءة القرآن وذكر الله جلّ وعلا وتعليم العلم وتعلّمه بعد أداء الصّلوات المفروضات؛ فإذا كانت هذه وظيفة المساجد التي بُنِيت لأجلها فإنّ المسلم إذا قعد فيها يستشعر ذلك فلا يغتاب ولا يشتم ولا يقول زورًا مراعاةً لحُرمة المسجد، فلأجلِ هذا يلزمون المساجد ولأجل هذا ترون الإقبال من النّاس كثيرًا في هذا الشّهر على المساجد وتفرّغهم من كثير من الشّواغل وهم ولله الحمد الخير باقٍ في هذه الأمّة لكنّك في غير رمضان لا ترى منهم الكثرة والكثرة تظهر في رمضان بسبب تفرّغ كثير من النّاس عن أحوال الدّنيا يتهيّؤون لرمضان لينقطعوا فيه للعبادة فيُهيّئوا أسباب المعاش ويجمعون ذلك ليتفرّغوا للعبادة فتراهم يكثرون في موسم رمضان بخلاف غيره فإنّه يتفرّقون في طلب الرّزق هنا وهناك فتقلّ الأعداد في عموم المساجد، فالحاصل: لزوم المساجد ممّا يُذكّر بحقّ الله تبارك وتعالى في هذا الباب فيعلم الإنسان أنّ هذه المساجد لا يصلح فيها شيء ممّا ذكر غير الصّلاة وذكر الله وقراءة القرآن وتعليم العلم النّافع فيَسْلمونَ ويسلم لهم صومهم؛ فنسأل الله جلّ وعلا أن يجعلنا وإيّاكم ممّن يستشعر هذا الأمر ويحفظ صومه ويُحافظ عليه.