ففرضية الشعرية الدينامية المفتوحة، وفق هذا المنظور تعمل علي التنبيه لأوضاعها كممارسة لا تشرط نفسها بشكل مغلق أو بدال مهيمن واكبر لأنها تقوم في أساسها علي جدلية الإثبات والمحو، وهذا، كما يقول صلاح بوسريف سر ديناميتها، باعتبارها تصيرا وترحلا دائمين.
فالكتابة بهذا المعني ستعمل على اجتراح شعرية المختلف، وهو ما سيتبدي في بلبلة الشكل الخطي للكتابة، التي لم يعد ممكنا الفصل بين الموزون والنثري فيها. بمجرد النظر في شكل كتابة النص. كما أن مفهوم البيت سيتلاشي وسيصبح المكان هو بلاغة الكتابة وليس الزمان الذي هجست به بعض البيانات التي وقعت في مأزق ما كانت تسعي لتجاوزه.
الكتابة والوضع الاجناسي
وبناء علي النتائج السابقة، فان الأطروحة ذهبت الى مقاربة الوضع الاجناسي في الكتابة، منطلقة من فرضية محو الحدود بين الأجناس أو الأنواع في الكتابة. وهي الفرضية التي عملت الأطروحة علي اختبارها في نصوص الكتابة ذاتها.
فالكتابة وضعت التصنيف الاجناسي موضع شك والتباس وهو ما سيقوض مفهوم القصيدة كذلك، في بعض أسسها التي كانت تحميها من التلاشي والانفراط.
ولعل في هذا ما يجعل الأطروحة، كما يظهر من خلال مفاصلها الأساسية، واشكاليتها كاملة، إنها تتجاوز ليس مفهوم القصيدة، بل مفهوم قصيدة النثر ذاته الذي سيصبح مفهوم الكتابة أو حداثة الكتابة كما يقترحه البحث، أكثر رحابة في استيعاب المفهوم الجامع للشهر. وبالتالي تبدو قصيدة النثر قاصرة عن تجاوز مأزقها كونها ستظل أسيرة وضع محدد، وتخضع هي الأخرى لمفاهيم الواحد و الأكبر أو الأفضل بالأحرى.
من المعني الى الدلالة
وفي مفهوم الأطروحة للدلالة والمعني. فأنها ذهبت الى أن الكتابة تجاوزت مفهوم المعني باعتباره مغلقا ومحددا. فالمعني في الكتابة لم يعد سيدا وفيها سيبدو المعني ناقصا مفتتا وغير مكتمل وهذا الخرق المعرفي الذي أنجزته الكتابة في الشعر المعاصر هو ما دفع الى وضع النص في منأى عن البيان والظهور فأصبح الغموض بالتالي سمة من سمات الكتابة.
فالشاعر لم يعد وفق هذا التصور، كما يقول جمال الدين بن الشيخ مسوغ معان أو منشغلا بالتركيب الفطري بل أصبح يعيش بجانب الكلمات فهو يستنفر المعاني المحجوبة ويزيح حدود معانيها. ويقتحم تدريجيا أراضيها المجهولة. فالمعني لم يعد يحدث دفعة واحدة، بل صار يحدث بجرعات أو هو بالأحرى وفق تصور دريدا ومفهومه مؤجل دائما وباستمرار. أي ما سينقل الكتابة من وضع المعني الى وضع الدلالة أو كما يقول الباحث الى الدلالة المنشرحة والمفتوحة أو الدينامية التي تحدث إبان الكتابة ذاتها.
الكتابة وإنتاجية القراءة
وسيذهب صلاح بوسريف في سياق تمديد أوضاع الكتابة وانطلاقا من استراتيجية الأطروحة ذاتها الى مقاربة وضع القراءة أو التلقي، فما دامت الكتابة غيرت أوضاعها ونقلت الشعر في قلبها المعرفي الكبير من الشفاهي الى الكتابي وأعطت الصفحة دورا أساسيا أو إضافيا في عملية التلقي فهذا ما سيجعل من القارئ بدوره يعيش مأزق الكتابة ومطباتها. أي أن الكتابة ستعصف بقناعات القارئ وستجعله يعيد النظر في معرفته الشعرية ذاتها.
فمن قارئ تقوده الكتابة الى قارئ يقود الكتابة. ومن قارئ مستسلم ومهيئ سلفا لاقتبال نص محدد بأولية المعني وبحتميته الى قارئ أمام نص كل شيء فيه محتمل في ضوء هذا القلب ستصبح المعرفة كما يقول صلاح بوسريف شرطا للقراءة والكتابة معا.
هذا الوضع أصبح يفرض وعي القارئ بما هو مقدم عليه. فما كان بالأمس القريب يأتيه سماعا، أو يتسرب إليه عبر مكتوب (Ecrit) محمل ببنيات وأساليب شفاهية أبطلته الكتابة لأنها وضعته ضمن شروط انكتابها، وأصبح متلاشيا أو شبه متلاش.
يعتبر صلاح بوسريف أن هذه الأطروحة في تصورها وفيما اقترحته من توجهات نظرية انطلاقا من استخلاصات نصية أو من مواجهة النصوص ذاتها تدخل ضمن مشروعه النظري والنصي الذي هو منكب عليه، وهو مشروع يعيد وفق تصوره إعادة قراءة الحداثة انطلاقا من مفهوماتها ذاتها وانطلاقا أيضا من الأصول التي ظلت حاضرة بثقلها الشعري والمعرفي في وعينا النصي والنظري لما نسميه حداثة أو كتابة في بعض الأحيان دون أن ننتبه الى مأزقها ومزالقها.
(عن جريدة القدس العربي - لندن)