مايتبدى في بناء صوره التي تتحد فيها الذات مع الموضوع من أجل تشكيل الرؤية الإنسانية في أفقها اللامحدود، وعليه تشكل الذات بؤرة اهتمام الشاعر في الديوان، فيطغى على شعره البعد الغنائي والوجداني الطافح بإحساسات الغربة والحزن والإحساس بالمشاعر الإنسانية وفي صدارتها الحب: مثل الندى الغافي / على ظل الفراشة... حبك، عصفت به الذكرى على العتبات / في صمت الخريف الإنساني ص23...وأجلسته على نهايات الكلام / يحيك خيبته مناديل / تلوح للمدى في سربه،/ لعل هذا الصبح يحمله إلى غده القريب / فدرب رحلته إلى الماضي يطول ص24، وبهذا استطاع الحازمي الاشتغال على تراثه الباطني متجاوزا مفهوم الانعكاس المرآوي ليدرك بهاجسه الشعري ا تنطوي عليه الذات من إمكانات إبداعية روحية، وبالتالي يربط تجربته الشعرية بالتجربة الباطنية في استغراقها الوجداني والباطني على نحو صوفي، " والحال أن الشعر حالة روحية غير قابلة للتجزيء، وهي وإن كانت منبثقة من جدل الوجود والوجدان، فإنها تتسامى باتجاه تحقيق نظامها الخاص واستقلالها الذاتي.وكل ما يمكن أن يبدو تجليا شعريا لمفاهيم صوفية خاضع، بضرورة الإبداع، لطبيعة التجربة الشعرية، وفق عملية امتصاص وتحويل مستمرة " [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]، ومن تناغم التجربة بين الشعري والصوفي نورد المقطع التالي : لنا ما لنا / من منابت للحلم نرقبها / في كفوف التلال القريبة، / جناح الهجير يهدهد / أرواحنا بالرضى حين نرعى الشياه / بمنحدرات الجبال المطلة،/ وجه الحياة يظل يضاحك /طفل رؤانا المريض على حزنه / والسماء تجعد من حاجبيها طويلا.../ عشي التعب ص 18 - 19، مما يسم نصوص الحازمي برائحة الأرض (التلال، الهجير، الشياه،الجبال...) وهذه الوحدات المعجمية تعيد لنا ذاكرة طفولة الشاعر / ومن تم عشقه لكل ما هو قروي لدرجة أغدق على فضائه البدوي صورا باذخة في الديوان، كلها تتضوع عفوية وحياة بسيطة تكاد تنسنا غربتنا في المدينة العربية الصاخبة، التي جعلت الشاعر ينصت لكائنات الأرض في شعرية أخاذة :لم ننتبه / لذبول خطوتنا على الصلصال / أغوتنا الغزالة حين فرت من قوائمها / لتبلغ فضة الأوقات في غدنا الشريد /لم نختلف عن أمس غربتنا كثيرا / بل تغير صوتنا في الظل مذ نبت الكلام / على حواف الصمت / في دمنا المجفف بالسؤال ص27، فالشاعر مشدود إلى الطفولة والصلصال والريح: كلنا انتهينا حين أهدر ليلنا / الفرص الأخيرة للتوحد..ص59، إلى أجواء الجنوب الذي يقيم فيه الشاعر صلحا أبديا مع اليباب المتسلل ليس فقط إلى الحقول والأشجار والأودية، وإنما إلى الأنساغ وعوالم الروح:..لنا الله / حين يلف اليباب حقولا من الحلم / رحنا نربي سنابلها في الفصول العصية ص17، ووحده النخيل ينتصب رمزا موحيا بالأجواء الطفولية الحالمة :هذه نخلة تسند العمر/ من وحل أيامه...أستظل بها / على مهلك / عندما تصعدين على جذع روحي المريض،/ خذي ما أردت / من الشغف المتيبس في عذقه / واتركيني أصارع ريحا / تريد اقتلاع جفوني / من الحلم.../ حين تغيبين ص20، ولعل احتفاء الشاعر بفضاء الجنوب له اعتراف ضمني باقترابه من عوالمه الطفولية، عبر استحضار الذاكرة من أجل إعادة صياغة دقائق القرية وناسها المتعبين :بعض من الذكرى معتقة / تراوح في سلال الوقت / مذ نذر النخيل منامه ومقامه / ليكون حارس حلم ليلتك البريئة / من نجوم الصحو - حول رؤاك -/ حين يزورك القمر الجميل ص23، وقول الشاعر : "حين تغفو سنابل أرواحنا / في هزيع سريرتها القروي / يجيء هواك الجنوبي مزدحما / بالمواويل والأغنيات القريبة/ من تعبي.../ كان طيفك يبذرني في الحقول / كحبة قمح تفتق وجه التراب /لتفصح عن حرقة كامنة " ص32.إنها شعرية القرية التي تسكن شغاف الشالخريف ) عليه حواسه، وفي ذلك تعبير عن المنظور الشرقي العربي على المستوى الذاتي في عوالمه المادية والمعنوية، ولعل الشاعر بنحته للشعرية القروية الجميلة المسترجعة في الزمن الماضي، يدين الزمن العربي المديني على اعتبار أن المدينة العربية الراهنة غائبة من كياننا الروحي، ولعلها أيضا استبطان الشاعر لنزعة فكرية منحازة إلى الثقافة الشرقية في خصوصياتها وهويتها المستلبة، ورفض لكل مظاهر الثقافة الغربية المشيئة للحياة، وفي المقطع التالي ما يوحي بهذا المعنى : " ليس في العمر متسع / كي نسير على ضفتين / ولن .كن من سرد سيرتنا / في كتابين منفصلين / عن الوقت والروح/ وليس لنا من خيار أخير / سوى أن نخبئ / في جسد جسدين"ص15، وهذه النزعة البدوية تستبد بمعجم الشاعر الذي تهيمن عليه موجودات البيئة القروية من حيوانات(الخيل، الحمام، الفراش، الغزال )، وأشجار (النخل، القصب، الصفصاف )، وتضاريس (السهول، التلال، الجبال، الرمل )،وأثمار (الرمان، عسل النحل، القمح)، وأزهار(السوسن، الورد)، وظواهر طبيعية (الشمس، الغيم، الريح،..)، وشخوص (فرسان، طفل)، وزمان (نيسان، الخريف )، وأشياء(السلال، السراج..) وأمكنة(المراعي، الحقول،..) شعرية الصمت والغياب:
من مواصفات الفضاء الشعري في الديوان أنه فضاء جنائزي مأتمي، فضاء الموت والإقصاء والصمت بالرغم من أن بعض المشاهد الشعرية تعج بخطاب المرأة الطافح بالتحدي والفيض والامتلاء، ونلمس ثنائية الموت والحياة قيمة مهيمنة في ثنايا النصوص الحازمية، ويمكن التمثيل على ذلك من خلال المتواليات التالية :
- ضيق الزمان # القمح والنخيل ص14
- توق الفرسان للعودة # الخريف البعيد ص18
- النخلة # وحل الأيام ص20
- وجه الحياة الضاحك # طفل رؤانا المريض ص19
- قصة العطش # الضفاف ص21
- ربيع القلب # المقيل ص22
- الندى الغافي # صمت الخريف الموسمي ص23
- صور العجز والتعب ص2- الكلام المجفف ص48....
وهذا التقابل بين الموت والحياة، بين الخصب واليباب، ينسحب حتى على توظيف الألوان من خلال كثافتها الإيحائية، حيث سيادة السواد صراحة كما في قول الشاعر:" فكي من وثاق قصائدي السوداء طيرا كم يسافر نحوك.." أو ضمنا من خلال الأجواء الدرامية الدالة عليه كالليل :" عيناك دفء قصائدي / قمر يؤنس ليل أغنيتي إذا مالت / على سعف النشيد "ص29، وهكذا ينتصر صوت السواد والخراب بألوان طيفه المتموجة والقابعة في الأعماق، لذلك شهدنا كما هائلا من الكائنات المصابة بالمسخ والتشويه، تبعا لذلك،في نصوص الديوان ( طفل رؤانا المريض، السماء تجعد من حاجبيها طويلا،نخلة تسند العمر، جذع روحي المريض،الشغف المتيبس في عذقه، تجلس الذكرى أمام النبع، العطش المقيم على الضفاف،...ليصبح الزمن الراهن مهدد بطوفان اليباب وجفاف الأنساغ:خذي ما أردت / من الشغف المتيبس في عذقه / واتركيني أصارع ريحا /تريد اقتلاع جفوني / من الحلم.../ حين تغيبين ص20، فالحقول والعواطف والأشياء والأحلام والأرواح والذكريات والآفاق كلها تكتوي بجمر اليباب.إنها رمزية قائمة على التقابل بين ثنائية الموت والحياة، وهذا التشوه اليبابي يمتد إلى المحسوس والمجرد، الواقعي والخيالي، بل إن التلفظ، في كل حين، يتم داخل نفس الجملة الشعرية بهذه التمثلات المتنافرة، على اعتبار أن الشاعر لا ينظر إلى الواقع ككتابة مرجعية، بل يدرجه كعلامة نصية سيميائية، فالحياة الموسومة بالخصب في شعر الحازمي تنتمي إلى مراحل الطفولة وفضاء القرية، ونحن نلاحظ أن صورة النخلة توجد في تقابل مع مختلف صور الموت واليباب لتشكل طاقة ترميزية ممتلئة بالخصب والحياة، لكنه خصب ميت، لأن البعد الدلالي الذي يقوم هذه التركيبات والمكونات المتناقضة يجد صداه في الماضي المؤسس على الصمت والغياب والموت، والممتد في الوقت الراهن، وكأني بالحازمي يكتب الحياة داخل الموت، ولذلك توسل بالانشغال على بنية السرد لإبراز المدى الوجودي لتجربة الرحيل والفقدان الروحي للعالم قصد استشراف ما قد تتيحه هذه التجربة من أبعاد جمالية تكون هي المحفز الجوهري لكي نحيا هذه الحياة،، لذلك تدخل الذات مع الموضوع، الوجدان مع الوجود في علاقة جدلية يوجه الشاعر من خلالها الفعل القرائي ويدعو القارئ لممارسة عملية التخييل / الشعر حتى يقارب التجربة الشعرية في شقها الوجودي، فالذات الشاعرة تفنى في الموضوع الشعري على نحو فكرة الحلول الصوفي، أو تجعل الموضوع الشعري يستغرق عوالم الذات وهواجسها، فيتحول الموضوع الشعري إلى وجود مطلق متحرر من جميع أنواع السلط والمواضعات، وهكذا نعثر على المعادلة الشعرية التالية :
الغزالة=عائشة= القرية=الحياة=الوجود.
إن الشاعر في ديوان " الغزالة تشرب صورتها" يتملكه هاجس الأنين المأساوي من جراء الخراب المهدد للأخضر واليابس، ومن جراء غياب الإشراقات المضيئة في الوجدان الإنساني، وهو ما يردده الشاعر في قصائده، فيرسم لنا معالم العزلة والغربة نتيجة لمفارقته الأرض والحب و،الفطرة والبساطة:" هل تكتب الدنيا / ولادتنا من الماضي/ كما عاد النشيد الموسمي من الصدى /هل كان يكفي / أن نظل على مسافة شارع / من روحنا / ألم يكن للعمر باب آخر لنحيد/ عن غده المريض "ص28، وبالتالي يرفض الشاعر التصالح مع هذا الواقع ماضيا وحاضرا ومستقبلا في سيرورة تراجيدية تغمر الوجدان، حيث الإحساس باليباب وخيبة الأمل في تحقيق كل ما هو ايجابي من الوجود الإنساني :"مر عام على حزنها والعذابات/ مثل الطحالب آخذة في النمو/ على صمت جدرانها الباردة/ كل شيء يدل عليه /...ص61 - .." كل شيء هنا ينطق بالصمت.. في لغة جامدة " ص62، وهكذا يعلن الشاعر بدأ واستمرار سيمفونية اليباب، خصوصا وأن ما تبقى مما هو جميل سيلفظ غدا آخر أنفاسه، بل لم يعد لوجوده في الذائقة العامة صدى، لذلك يستقصي الشاعر حالات الموت الرمزي بدأ من الجدب الحال بالحقول وانتهاء بالموت الحال بالروح، ومن الطبيعي في هذه الأجواء أن تكثر في تلابيب الديوان، صور اليأس والإحباط والضياع الذي ينتهي معه كل شيء، ويسود الخوف من المجهول والمستقبل، فلا يجد الشاعر الخلاص إلا في الحلم القادر على صوغ الوجه الجميل للحياة :" لنا الحلم والوقت يا عائشة"ص36
والظاهر من الديوان أن بلاغة الصمت تؤول إلى المعطى الواقعي السلبي المتمثل في فقدان الأشياء لمعانيها، وقد يؤول أيضا إلى ميسم جمالي رؤياوي إيجابي يتجلى في الدنو السري مما هو مفتقد،أو هو " موقف ذاتي بحت، إذ لم يعد في حوزة الشاعر شيء يذكر ومن تم تحول القائل من شاعر رسولي إلى شاعر هروبي ؟" [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]، ومن تم يتضح أن الحازمي لاذ بالصمت تعبيرا عن موقف ذاتي مرتبط بالتجربة الذاتية له، والمرتبطة بالتمرد على توعكات الحياة وأشيائها، لاقتناعه بعدم جدوى الكلام في زمن تفتقد فيه معاني الأشياء، إضافة إلى رغبة الشاعر في اكتناه جوهر الموجودات والنفاذ إلى الطبقات الأركيولوجية للإنسان، وإحساس الشاعر الحاد بالفشل والانكسار واليباب. وتتخذ بلاغة الصمت في الديوان بعدا شكليا أيضا، يتمثل في كتابة البياض أو الفراغ، أي ذلك التشكيل الكثيف لصور البياض والفراغ مقابل المساحة القليلة للسواد، وهو ما يشي بصمت جمالي آخر يعبر عنه الشاعر الألماني ريلكه بقوله :" ليس هناك أقوى من الصمت"، كما يتجلى هذا الصمت الشكلي أيضا في توظيف الشاعر بكثافة لنقط