بدايات التوظيف الأسطوري في الشّعر العربي
الشّعر تعبير جميل عن الحياة ، وجود ، هو ذلك الإحساس المرهف الصادق ، وتلك المشاعر المتدفقة في لأشكال مختلفة ، تجعل من الشيء البسيط شيئا عظيما ، يخلد على طول المدى ، فالفن لا يقاس بالزمان ولا بالمكان ، فهو مستمر وشامل ، ويقاس بمدى جماله وتعبيره ، واختراقه للزمان والمكان فيسير في فضاء اللامتناهي ، وزمن سرمدي .
والشّعر فن اتخذه الإنسان منذ القديم لكي يعبّر به عن نفسه وعن مشاعره ، وهو شكل تعبيري يرسم حياة الإنسان بكل جوانبها المختلفة وهو ظاهرة إنسانية ونشاط جمالي يحمل رسالة إنسانية تحمل بين طيّاتها الدعوة إلى إقامة السلام والحب والأمل بين النّاس عن طريق الكلمة الصادقة والمعبّرة .
ولعلّ السؤال الذي يطرح نفسه من أين كانت بدايات التوظيف الأسطوري في الشّعر العربي ؟ وما هي الدوافع الكامنة وراء هذا التوظيف المبالغ فيه ؟
إنّ هذا كثيرا ما راود الدارسين والمفكرين في الوطن العربي على حد سواء ، وحتّى نحن وقعنا في نهر هذا التساؤل الذي استسلمنا له بادئ ذا بدء ، لكننا في الأخير رأينا أنّه لا بأس من المحاولة في السباحة نحو الإجابة عن هذا السؤال الضيّق في شكله الواسع في معناه .
من هنا آثرنا الإنطلاق من العهد القديم متلمسين أثر الأساطير الجاهلية عند العرب بعد الإسلام حتّى نصل إلى عصرنا الحالي ـ المعاصر ـ وبذلك نكون قد لامسنا ولو قليلا بدايات التوظيف الأسطوري في الشّعر العربي على امتداد تاريخ العرب وتطور حياتهم،بعد إذ أصبحت أحوالهم بعد الإسلام خلاف أحوالهم قبل ذلك .
لقد ظلّ الأدب العربي تراثا هاما ومنبعا خصبا للعرب بعد الإسلام يصوّر ما كانت تحمله البيئة العربية من أوضاع وأحداث ونزاعات روحية عقائدية ، ويعبّرعن الحياة بكلّ همومها وتطلعاتها،سلبياتها وإيجابياتها (1) ... وظلّ على هذه الحال طوال فترة طويلة من الزمن ، حتّى لحقت به مظاهر لتطور شيئا بعد شيء ، غير أنّ هذا التطوّر لم يكن من عدم إنمّا كان مترتبا على تطوّر الحياة تطورا نحو الحضارة و لإزدهار، هذا هو المتوقع مادام الأدب في واقع الحال مرآة لحياة الشعوب و نفسياتها .
غير أنّ هذا التطوّر الحاصل في الأدب العربي عامة والشّعر خاصة لم يدفع الشاعر العربي إلى التنكر لأدبه القديم وإن جددوا فحد التجديد أنّه قتل القديم فهما ، وذلك تماشيا مع ظروف الإنسان العربي في العصر المعاصر.
1 - أنظر: حسين مجيب المصري.الأسطورة بين العرب والفرس والترك.ص113 .
وكل ما يعنينا في هذا المبحث هو ورود ذكر وتوظيف الأساطير العربية القديمة في شعرنا العربي بعد الإسلام مرورا بالعصر الحديث وصولا إلى عصرنا الحالي المعاصر.
إنّ أوّل ما نستجمعه في هذا الصدد هو أنّ العرب بعد الإسلام كانوا يعتقدون أن الجن يخاطبون الإنس ، وهذا من الدليل على أنّ أساطير الجن ظلّت ماثلة في أدهان العرب فكان حديثهم عنهم ـ الجن ـ كلاما لا موضع فيه للتجريح وليس حديث خرافة ، ومن الدليل على هذا ما قيل من أنّ الشاعر الأموي ذا الرّمة حين قال:
أيا ظبية الوعثاء بين جلاجل
وبين النقا هل أنت أم سالم
فعيناك عيناها وجيدك جيدها
ولونك لولا حمشة في القوائم
أجابه جنّي من حيث لا يشاهده قائلا :
أأنت الذي شبّهت ظبية قفرة
لها ذنب فوقها . أم سالم
وقرنان إمّا يعلّقانك يتركا
بجنبيك يا غيلان مثل المياسم (1)
فكأنّ الجنّي كان يسمع إنشاد ذا الرّمة فيرد عليه مخاطبا بأبيات فيها ما فيها من التجريح والإنتقاد .
كما روى الجاحظ أبيات فيها ذكر للجن منها:
فقلت : إلى الطعام . فقال منهم
زعيم : نحسد الإنس الطعام
لقد فضلتم بالأكل فينــــــــا
ولكن ذاك يعفيكم سقامـــا
أمط عنا لطعام فإنّ فيــــــه
لآكله النفاخة و السقامــــا (2)
1 - المرجع السابق .ص53 .
2- المرجع نفسه . ص 55 .
فالجاحظ هنا يقول : أنّ الجنّ قدمت عليه وقد أوقد للطعام نارا فدعاهم إلى الأكل معه ، إلاّ أنّهم لم يقبلوا دعوته ، على أنّ الجنّ يحسدون الإنس في الأكل ، وظاهر قول الشاعر لقد فضلتم بالأكل فينا ، أنّ الجنّ لا يأكلون ولا يشربون .
وقال ابن خروف في شرح هذه الأبيات إنّ هذا مخالف للشرع لأنّ النبي صلى اللّه عليه وسلّم قال إنّ الجنّ تأكل وتشرب . (2)
وكانت هذه الأسطورة أو ما يشبهها في الإشارة إلى أنّ الجنّ تأكل ، فقيل إنّ العلماء يختلفون في ذلك على أقوال ثلاثة ، أحدها أنّ جميع الجن لا يأكلون ولا يشربون ونهم مالا يأكل ولا يشرب . أمّا القول الثالث فيستمد منهم أنّهم جميعا يأكلون ويشربون ، وقول بعضهم إنّ أكلهم وشربهم تشمم استرواح لا مضغ وبلع وهذا ماليس له من دليل . (3)
وهذا ما يبيّن تضارب الأقوال في طبيعة هذه الطائفة من المخلوقات الأسطوريّة وكيف وضّفها وتصوّرها كل حسب خياله وإبداعه ممّا يدّل على أنّ الجن كانوا عنصرا له أهميته الخاصة عند العرب في تشكيل الأسطورة وإسقاطها على أشعارهم على أنّهم ـ الجن ـ نوع من المخلوقات العجيبة تستوطن واد عبقر، وتقع على أشكال مختلفة فتارة تظهر في صورة حيوان كالحيّة والقنفذ مثلا ، وتارة أخرى تظهر على أنّها لهيب من النّار... وهذا كلّه من الدليل على أنّ الجن في اتصالهم بالإنس كانوا أحد سمات الشّعر العربي بحيث وظفت تلك المخلوقات العجيبة آن ذاك توظيفا صريحا متعددا .
وتبقى الإشارة إلى أنّ وجود الجن أمر لاريب فيه لأن ذكرهم وارد في القرآن الكريم أكثر من مرة ، ولكنّنا نحكم بأسطوريتهم لا في حقيقة وجودهم ، بل فيما ينعقد بينهم وبين النّاس من صلات وعقائد ، وما يروى من قصصهم معهم .
وهكذا وبعد بحثنا في مرحلة ما بعد الإسلام عن توظيف الشعراء العرب للأساطير القديمة ، نصل الآن إلى العصر الحديث ، وننظر مثلا في شعر شوقي حيث نجده يمزج في إحدى قصائده ـ الطيّارون الفرنسيون ـ بين أسطورة علاء الذين من ناحية وأسطورة الجن من ناحية أخرى يقول :
1 – الألوسي : بلوغ الإرب.ص350 .ج2 .1924 .القاهرة .نقلا عن: د حسين مجيب المصري. الأسطورة بين العرب والفرس والترك.ص. 41 2 - المرجع نفسه . ص41 . 3 - المرجع نفسه . ص57 .