خميس المقهى
توقفت الحرب، وطلع آذار من شتائها وراحت ريشته الخضراء ترسم الحياة وسط الحطام الذي أحدثته القذائف، فعادت الأقدام تمارس حركتها وتطرد بوقعها وحشة الشوارع الفارغة، تلك الشوارع التي انتشرت الحفر على أجسادها كعضات كلاب سائبة.
تحامل على إرهاق السنوات الستين، وخرج من بيته كالغير، وصعد سيارة الأجرة بعد تزاحم شوه هندامه وتركها تتجه به إلى مركز الناحية التي تبعد عن مركز المدينة بمسافة ثلاثين كيلو متراً.
كانت الأربعون يوماً الماضية من حياته بعيدة جداً عن الحياة.. يحاصرها ليلاً رعب الطائرات والإذاعات، وتهدمها نهاراً الوجبات اليومية المتكررة ثلاث مرات (خبز شعير وطماطه) فقط.
ولم يكن الموت هو الذي يخيفه فسنوات حياته الماضية دفتر حروب، كل سطر فيه يتوهج بأحمر الدم وبريق الانفجارات، لكن الرحيل بدون رؤية وجه (زكية) هو الذي جعله يستمهل السماء لدى كل غارة جوية تحصل ويطلب عطفها عليه.
وقد استجابت له السماء ومطت عمره حتى وصل هذا اليوم، وهاهي السيارة التي نقلته من المدينة تنهي المسافة وتدخل الناحية التي تسكن فيها الحبيبة وينزل قلبه في اللحظة التي توقفت بها ليركض مسابقاً عقرب الساعة من أجل الوصول في الموعد المقرر.
كان الشارع المؤدي إلى المقهى الوحيد في هذه البلدة الصغيرة طويلاً.. أطول من عمر الدقائق المتبقية، وزكية مضبوطة جداً في موعدها هذا بالذات، إذ أنها ستمر في الوقت المعتاد وهو الساعة الثالثة عصراً من أمام المقهى وترسل نحوه نظرتها المتفق عليها، وعندما لا تجده جالساً على أحد التخوت الخارجية كالعادة، فسوف تغوص في السوق القريب مصطنعة التبضع ولم تتبضع، بل سيدور السوق في رأسها... تدور الكرة الأرضية كلها... وعندما ترجع في نفس المسار بعد نصف ساعة ولم تجده جالساً أيضاً، ستتيقن بأن الحرب قد أخذته منها إذ لابد وأن قصف بيته كما قصفت الكثير من البيوت الآمنة، عندها سيدور رأسها بعنف أشد، وتتفجر صرخة المفجوع في صدرها فيفتضح السر الذي ظل مكتوماً عن جميع الناس لمدة أربعين سنة هي فترة حبهما الطويل والمتجدد.
(لا زلت حياً يا زكية، وحبنا الذي لم يقتله لا الزمن، ولا الحظ الذي جعل كلاً منا يرتبط بآخر سواه، لا يزال حياً هو الآخر... يتدفق من قلبي كأمواج نور تتدفق من ينبوع ضوء. لم تأكلني الحرب بعد، ها أنذا أعود إليك حاملاً أسفي لانقطاعي عن الإيفاء بالموعد لمدة ستة أسابيع هي عمر تلك الحرب القاسية، أعود لنستأنف حبنا، هذا الحب الذي منذ أن رحلت عن المدينة قبل عشر سنوات قررنا أن نتبادله بالنظرات فقط في عصر كل يوم خميس).
كانت الهواجس تركض في رأسه مع خطواته، وساعته تقفز نحو عينيه كل بضعة أمتار. لم يكن أمام خياله سوى مشهد واحد فقط يأمل أن يتكرر هذا اليوم مثلما كان يتكرر في الخميسات التي سبقت الحرب:
(هو جالس على أحد التخوت الخارجية للمقهى يذوب السكر أو يحرق السيكارة وهي تنعطف نحو السوق في الساعة الثالثة تماماً متهادية، كما كانت في شبابها، بغنج حمامة ريفية، حاملة كيس التبضع وقد استخدمته للتمويه على زوجها وأولادها الكبار. ترشقه بنظرة اشتياق أسبوعٍ بأكمله فيرد هو بأخرى فيها عطش عمرٍ بحاله، ثم تمضي نحو السوق لتعود بعد نصف ساعة وتتكرر النظرة ذاتها وترحل بعدها إلى دارها وينهض هو قافلاً إلى المدينة وأمل اللقاء في المكان نفسه، يتوهج في صدريهما العجوزين بقوة).
انتهى الشارع ووصل متأخراً عن العقرب بأربع دقائق وطار بصره فوراً نحو الركن القصي حيث تقع المقهى.
كان توقعه الأقوى هو أن يجد التخوت الخشبية ممتدة على طول الرصيف كما كانت قبل الحرب وقد تقلص الآن عدد جلاسها بسبب تناثرهم في أصقاع الأرض هرباً من قنابل الطائرات، ومن داخلها تتصاعد بعض أصوات الشباب وهم يلعبون النرد، في حين جلس صاحبها المتجهم الوجه جلسته اللقلقية المألوفة، سانداً رأسه على ركبته المثنية فوق الكرسي وقد تضخم عبوسه بسبب انحسار الزبائن وارتفاع سعر السكر.
لكن عينيه لم تجد كل ذلك، بل أبصرتا ركاماً هائلاً من الحجارة والحديد ونثار الاسمنت وقد احتل التخوت الخشبية وامتد إلى الأمام حتى رأس الشارع.
رن صدره بعنف كأن قذيفة مباغته ضربته، وانهارت حيويته الرياضية مرة واحدة، وشعر باستحالة ساقيه إلى قصبتين هشتين لا طاقة بهما لحمل جسده العجوز، فانحرف بالكاد جانباً، وعلى الرصيف العتيق رمى بجسده اللاهث وغاص في عالم من فراغ.
بعد نصف ساعة قضاها مركوماً على الرصيف تتفرسه عيون المارة بعطف أو فضول انكشف فراغ العالم عن قامة زكية.
كأن كيس التبضع في يدها خالياً، يتأرجح بانكسار، وفوق وجهها الذي لم يشيخ بعد، انتشر اصفرار الأقوال مطرزاً بتجاعيد حزن حصل وسيحصل أيضاً في آتيات الأيام.
نهض مذهولاً، وبصدر متضارب المشاعر هرول مقترباً منها.
كان في بلعومه غصة مرة، وفي جسده ارتجاف مخيف يفتت بقايا قوته التي ياما صارعت الزمن.
فتح فمه المصطك لكي يحرك لسانه بالسؤال، لكن السؤال تجمد في الحنجرة حين شاهد زكية وقد أخذت بالتراجع عنه إلى الوراء، مبتعدة إلى أعماق الأنقاض، تاركة عينيها معلقتين أمامه في فضاء الشارع وقد تحولتا إلى ساعتين قديمتين توقفت عقاربهما على الثالثة تماماً من عصر الخميس الأول للحرب.
1996.
****
الوجه الذي بقي
حين دهمني صوته ذي اللهجة البصرية مروجاً لبضاعته الصيفية، استيقظ في ذاكرتي حالاً وجهه الفتي، ذلك الوجه الذي قاسمني رهبة الموضع الأول في بواكير الحرب.
أوقفت خطواتي المتسارعة نحو غايتها الرسمية، وحرفت نظري صوب مكانه، وحدقت فيه للحظة من أجل التأكد ثم تقدمت باتجاهه وخدر المفاجأة جعلني كالماشي على أرض من إسفنج.
زمان طويل ذلك الذي فصلني عنه... زمان تضاعف حداً في مدته حتى صار دهوراً طويلة، لكن الزمان ذلك، لم يفصل وجهه عن شاشة ذاكرتي، ولم يفصل اسمه عنها، ولا أحداث حياته العائلية بكل تفاصيلها، تلك الأحداث التي طالما سردها على طوال الشهرين الساخنين اللذين عشناهما معاً تحت سقف الحرب ولم نعش غيرهما بعد ذلك بسبب انتقالي بعيداً عنه إلى وحدة عسكرية أخرى.
وقفت قبالته وعبر وعاء اللبن الذي وضعه أمامه للبيع، أرسلت سلامي بدفء أخوي:
ـ غالب، كيف حالك؟
كان في صوتي اشتياق مرتعش من فرط المصادفة العجيبة وفي عيني فيض مودة جعله يبدل ذهول نظراته التي قابلني بها، بإلفة لذيذة، قبل أن يرد عليّ:
ـ بخير...
ـ هل تتذكرني؟
ـ.........
ـ غالب... هل تتذكرني... أنا فيصل غريب.
لم يرد بالنفي ولا الإيجاب، وإنما رد بنظرة متسائلة حفزتني إلى تقديم نفسي له بصورة أوضح واضعاً في حسابي أن الفترة التي فصلت وجهي عنه كانت طويلة جداً، وإن الذاكرات لا تتشابه من ناحية القوة:
ـ غالب... أنا فيصل غريب... الجندي الذي عاش معك في مواضع الجبهة أيام الحرب الأولى... فيصل الذي كنت تناديه باسم فيصل الدليمي.
طفح على وجهه تعبير حزين وهو يستمع إلى هذا الإيجاز، لكنه لم يرد عليّ وظل يحدق بي فعرفت أنه ينتظر تفاصيل أخرى.
في تلك الأثناء، تنبهت لأمر مهم أنستني إياه دهشة المفاجأة الأولى، فغالب هو غالب.
إذ لم يتغير أي شيء من ملامحه، لا طراوة الوجه، ولا سواد الشعر، ولم يكبر فيه أي شيء على الإطلاق وكأن أقدام الحرب لم تدس على سنوات عمره وإنما جانبتها تماماً وتركتها على حالها.
شعرت بعرق الخجل يبلل وجهي فوراً، وصبغت بشرتي حمرة ساخنة فقررت إنهاء اللقاء باعتذار للشاب، وسحب أقدامي من مكانها والولوج سريعاً داخل زحمة السوق.
ـ عفواً.. أعتذر.. لقد اختلطت عليَّ الوجوه، فقد خلتك أحد أصدقائي القدامى.
ـ وما اسم صديقك هذا؟...
سألني الشاب وفي صوته نبرة لينة، كأنها تريد أن تنتزع مني الاسم لتعلن عن أمر خفي:
ـ غالب عبد الحسين... شاب له ملامحك نفسها تقريباً، وهو من البصرة أيضاً قلت له ذلك تحت سطوة الخجل، واستدرت لأبتعد عنه.
تغطى وجه الشاب بالحزن الجليل الذي سمعت عنه كثيراً ولم أره إلا هذه المرة، ووجدت جوابي يوقظ في عينيه دمعتين نائمتين منذ سنوات طويلة، وقبل أن يدع كياني يغيب عنه، رمى على مسامعي جواباً جعلني أتسمر في مكاني، ثم جعل وقوفي يستمر طويلاً إلى أن دار الزمان ثماني عشرة دورة إلى الوراء، عارضاً عليَّ خلالها مشاهد عنيفة لسماوات من شظايا وأرض من نار... نار حامية ياما أكلت من الأجساد التي واجهتها، ثم عاد ليدور من جديد ليعيدني إلى مشهد الحياة الجديدة.
لقد فاجأني ذلك الشاب بجواب علقني بين الألم والفرح... جواب جعل إحدى عيني تسكب أمواج حزنها فتتضبب الأرض والسماء، والأخرى تستقبل ينبوعاً من ضوء صاف رقيق غاب بسببه ظلام الحرب الدامس الذي استوطنني طويلاً، إذ قال لي وهو يخطو نحوي من وراء وعاء اللبن الذي كان يرتزق منه ثم يمد يده ليصافحني:
ـ لم تخطِئ العنوان يا عم، ولكنك أخطأت الاسم فقط، فأنا لست غالب، وإنما أحمد، الابن الوحيد لغالب عبد الحسين. وأعتقد أنك سمعت باسمي من أبي لأن أمي تقول باستمرار: لم يكن لأبيك من حديث أثير لنفسه سوى الحديث عنك منذ لحظة ولادتك وحتى رحيله في السنة الثانية من الحرب لأنك كنت صورة طبق الأصل منه.
1998