منتديات سكيكدة (منتدى سكيكدة الأول )
[table style="WIDTH: 262px; HEIGHT: 139px" border=1 align=center]

[tr]
[td]
[/td][/tr][/table]للتسجيل أو الدخول يرجى الضغط على أدناه
يسرنــــــا أن تكون عضوا في بيتنا
منتديات سكيكدة (منتدى سكيكدة الأول )
[table style="WIDTH: 262px; HEIGHT: 139px" border=1 align=center]

[tr]
[td]
[/td][/tr][/table]للتسجيل أو الدخول يرجى الضغط على أدناه
يسرنــــــا أن تكون عضوا في بيتنا
منتديات سكيكدة (منتدى سكيكدة الأول )
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.




 
الرئيسيةالبوابـــةأحدث الصورالتسجيلدخول

توفيت والدة صاحب المنتدى نرجو  من جميع الزوار و الأعضاء الدعاء لها بالرحمة و المغفرة "" اللهم اغفر لها و ارحمها ""


 

 أيام العبير حسن عبد الرزاق **قصص قصيرة

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
mohamed
مشرف منتدى الأدب العربي
مشرف منتدى الأدب العربي
mohamed


ذكر
عدد الرسائل : 63
العمر : 37
العمل/الترفيه : مرح
مدينتك : سكيكدة
نقاط التميز : 32
تاريخ التسجيل : 02/11/2008

أيام العبير حسن عبد الرزاق **قصص قصيرة Empty
مُساهمةموضوع: أيام العبير حسن عبد الرزاق **قصص قصيرة   أيام العبير حسن عبد الرزاق **قصص قصيرة Emptyالأحد ديسمبر 07, 2008 10:01 pm

هدايا الليل





فرغ القدح الأخير، وقبل أن تأتيني حوراء وتسحبني نحو صالة بيتهم الملوكي، كانت الحديقة والفضاء الذي يعلوها ونجوم سماء الساعة الواحدة كلها قد اطلعت ورداً ذا رائحة منعشة.
وعند المدخل حيث كنا نسير متجاورين، أنا مترنح الخطوات وهي راسختها، شاهدت أعداداً من ورد الرازقي والنرجس من بين البلاطات المرمرية المتجاورة ثم تنتشر على مساحة الممر وتفوح برائحة الحديقة ذاتها.
في الصالة أجلستني حوراء على أريكة اسفنجية ذات نسيج مزركش بالورد هو الآخر، واستسمحتني أن أهبها دقيقة واحدة حتى تعود لي بعدها بمفاجأة مذهلة كما وصفتها.
في تلك الدقيقة حركت أصابعي المسترخية على الأريكة صوب إحدى ورودها. كانت حركتي هذه لا إرادية، مثل أية حركة يقوم بها شخص منتظر، لكن المدهش في الأمر هو أن الوردة ما إن لامستها أصابعي حتى انتفضت من مرقدها الاسفنجي، وانتصبت إلى الأعلى وبدأت تكتسي لوناً أبيض ثم تفوح برائحة (أعتقد أنها سماوية) أخذت تتضاعف مع نموها السريع وازدياد حجمها.
تملكتني دهشة ونشوة هائلتين وكدت أحيط الوردة الغريبة تلك بكفي الاثنتين لولا أنَّ صوت حوراء نزل من الطابق العلوي للدار معلناً عن وصول المفاجأة التي وعدتني بها.
زحفت من مكاني باتجاه الجانب القصي للأريكة تاركاً الوردة تنمو بعيداً عني لكي أقدمها في ما بعد كمفاجأة مذهلة إلى حوراء رداً على مفاجأتها وقمت بترتيب هيئتي بطريقة طفولية ورتبت أوتار حنجرتي على طبقة معينة لتدفع كلمة ((الله)) بكل دهشة ورقة ورومانسية حال مشاهدة ما وعدتني به.
بعد بضع خطوات سلمية تعاقبت كموسيقى رقيقة تخالطها موسيقى صاخبة انكشف فضاء الصالة عن قامة رجل في أوائل الكهولة توحي أبعادها بعافية تتناسب تماماً مع عافية أثاث وديكور بيته الفخم، وقبل أن أقوم بأي رد فعل صاحت حوراء وهي ترفع إصبعها نحوه:
ـ هذه هي مفاجأتي لك: إنه بابا!
ثم أطلقت ضحكة تشبه نغمة البيانو.
وقف الرجل على الدرجة الأولى من السلم، وأمامه أوقف حوراء (وقد مسكها برقة من أحد كتفيها). ثم خاطبني بلسان لين:
ـ اسمع أيها الشاب:
بعد خمس عشرة سنة من رفضي لك، وجدت نفسي على خطأ، نعم على خطأ وها أنا أعلن عن ندمي ومرارتي لأني حرمتك من أجمل أحلامك. لقد قلت لك وقتها:
إنك صعلوك جائع قذفته عليَّ مدينته البائسة وجاء ليلصق نفسه باسمي بعد أن أغرى ابنتي اليافعة بكلام ساحر يتفوه به عادة أولئك الذين يقرؤون الكتب ولم أكن وقتها حكيماً في كلامي، ولا صاحب نظرة واسعة للحياة فلو كنت كذلك لنظرت إلى جوانب أخرى جميلة فيك، فأنت كنت طالباً جامعياً، ولك مستقبل رائع، وكنت على فقرك ورداءة حالك ذا وجه وسيم وقامة رياضية معافاة، وفوق كل ذلك كنت مؤدباً جداً بحيث أنني عندما طردتك كأي كلب أجرب لم تقل شيئاً بل استدرت بقلب كبير وخرجت باندحار المساكين حين يصطدمون بقوة أضرس منهم. ولهذا (يا الله ثمة قرار عظيم سيقال) فإنني بعد أن عرفت بأن سماء حياتك فارغة إلا من قمر حوراء وأن أيام عمرك الماضية التي تناثرت على تراب الحرب ما كانت إلا شموعاً انطفأت بلهيب حوراء وليس بلهيب القذائف، أهبك الآن ابنتي هذه وأريد منك أن تأخذها إلى حيث تشاء بشرط أن لا تقترب بعد الآن من هذه الحديقة أبداً. هل تسمع؟ لا تقترب أبداً من هذه الحديقة. فخذها، خذها، خذها..
كانت يده تدفع حوراء نحوي ومع كل (خذها) كنت أترنح من فرط الرهبة العظيمة التي تملكتني أمام هذا الرجل الجبار، وعندما صارت حوراء قريبة من يدي وجدت يده تجتاحني من جهة الشمال بعنف، ثم تسقطني على الأرض مرة واحدة وتغيبني عن الوجود.
بعد إغماءة مؤقتة، فتحت عيني فوجدت نفسي فوق ثيل رطب يفوح برائحة الأرض وقدم مستنكفة لأحد حراس الليل تتلاعب بجسدي، ومع التلاعب كانت كلمات السباب واللعنة تتوالى عليّ، وعلى مجموعة الصعاليك الآخرين الذين ملؤوا الحديقة العامة برائحة الخمر الرخيص.
تلمست خدي الذي كان يؤلمني جداً فأحسست بآثار أصابع الحارس المنفعل قد انطبعت عليه.
كانت صفعته عنيفة غاضبة، أطارت من رأسي وأنفي لون الورد ورائحته ومعها أطارت وردة الأريكة التي كنت سأقدمها إلى حوراء، وحوراء نفسها بموسيقى ضحكتها وذكريات زمانها الجامعي الذي أوصلنا إلى حدود الخطوبة.
نهضت مستنداً إلى المصطبة، وسحبت ساقي الصناعية من فوقها، وبيد مرتجفة من فرط الخمرة والخوف أكملت قامتي التي أنقصتها الحرب ساقاً ثم تناولت عكازي، واندفعت إلى خارج الحديقة مترنحاً، لأغوص في ظلام الليل ورأسي منشغلة بالبحث عن حديقة أخرى أدخل من خلالها إلى بيت حوراء في الليلة القادمة بدون منغصات.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
http://skikda.mountada.biz/
mohamed
مشرف منتدى الأدب العربي
مشرف منتدى الأدب العربي
mohamed


ذكر
عدد الرسائل : 63
العمر : 37
العمل/الترفيه : مرح
مدينتك : سكيكدة
نقاط التميز : 32
تاريخ التسجيل : 02/11/2008

أيام العبير حسن عبد الرزاق **قصص قصيرة Empty
مُساهمةموضوع: أيام العبير حسن عبد الرزاق **قصص قصيرة   أيام العبير حسن عبد الرزاق **قصص قصيرة Emptyالأحد ديسمبر 07, 2008 10:02 pm

سبع سنوات مائية





وأنا أقترب من قمة الجسر ضاعفت تطويق طفلتي بذراعي ورصصت خدها المحموم في خدي حتى أزيد من التحام مصيري بها.
كان على رأسي نواح مفجوع يصبغ الفضاء بلون حزين، وفوق النواح تندفع غيوم رمادية ذات مطر سينزل بعد قليل وكان مصدر تلك الغيوم هو الأفق الشمالي والأفق الغربي.
هاجس ما أدار رقبتي إلى جهة اليسار حيث يقع خزان الماء العالي وفوق الخزان تقبع بضع قبرات ذات نواح حزين ألفتُ منظرهن منذ زمن بعيد فانهصرت مهجتي بخوف شديد عندما لم أبصر القبرات التي سمعت نواحها في تلك اللحظات.
أنا لست مغامراً حتى أعبر في أيام الحرب جسراً أحدثت فيه الطائرات فتحة بحجم فم الحوت، ولكني أب انتفضت أبوته حين وجد أن جسد طفلته الوحيدة تجمر إلى حد الاتقاد بسبب الحمى التي أصابته ولا سبيل لإطفائه إلا بالعبور إلى مستشفى الأطفال الوحيد الواقع في الجانب الآخر من المدينة.
لقد جئت لأعبر حتى أديم حياة طفلتي، وحيث أن الفتحة الحوتية كانت ترعبني حتى قبل أن أراها فقد حضّرت في صدري عدة أدعية ستحرك مشاعر الملائكة بالتأكيد، ومع الأدعية نذرت خروفاً سوف أذبحه في أول خطوة أحاذي بها تلك الفتحة المخيفة لكي أحتمي بدمائه إلى أن أصل إلى الجهة الأخرى.
صبّرتُ طفلتي الملتصقة بي حين كررت للمرة العشرين بفم ناشف تتلوى حروفه من فرط الألم، عبارة:
ـ بابا... أنا مريضة.
قلت لها عبارتي نفسها التي ما لبثت أعيدها على مسامعها في كل تأوه لها:
ـ سوف تشفين بعد قليل يا حبيبتي.
ثم جنحت بها نحو الرصيف الأيمن، ورحت أدب بحذر وبطء مثلما كان يفعل مئات العابرين مثلي، قاطعاً فتحة الرعب تلك بخوف لا تتحمله الصدور، ودماء الخروف تسيل من سكين إيماني إلى تحت أقدام العابرين فتشملها ببركاتها.
إن للموت منظراً مفزعاً لا تطيقه الأعين، ولهذا اعتاد الناس أن يتحجبوا عنه بأيديهم أو يديروا وجوههم عنه في لحظات مداهمته لهم غير أني ما كان بوسعي إلا أن أنظر إليه مثلما كان يفعل الآخرون لأن يده الخبيثة كانت تترصد من خلال الفتحة الواسعة الأقدام الساهية عنه، حتى تجرها إلى قعره وتضيع أصحابها في ظلماته الداكنة.
كانت رؤوسنا جميعها مطأطأة، تنظر بفزع إلى شراهة النهر المائر تحتها متناسية السماء التي فوقنا ومفاجآت هذه السماء التي تأتي بلمح البصر، وتذهب بلمح البصر أيضاً.
لقد كنا مطمئنين من جانبها تماماً فهدوءها لم تمزقه صافرة الإنذار بعد، ووداعتها لم تتخربش بأصوات القصف، غير أن ذلك الهدوء وتلك الوداعة انشقا في لحظة دهر لا تتكرر مرتين عن زعيق مرهب متسلط جبار اخترق أسماعنا بعنف فرجفت على أثره أطرافنا ومادت يميناً وشمالاً ثم ارتفعت رؤوسنا إلى السماء ورحنا نحدق بمصدره تحديق طيور أرضية وقد داهمتها أسراب من الضواري الجائعة.
كان الزعيق لخمس طائرات سبقت صوتها وسبقت صوت صافرة الإنذار.
طائرات ضخمة الحجم ذات أشكال وحشية انتشرت بتنسيق تام على فضاء الجسر وبدون أن تميز أحدنا عن الآخر اندفعت تلتقطنا جماعات.. جماعات وتوصلنا إلى أعماق السماء ثم تعيدنا إلى الأرض لتلصقنا بها إلى الأبد.
لقد كنت أنا وطفلتي أول الملتقطين، حيث رفعتنا القذيفة الأولى إلى السماء الأولى، وعندما أرادت أن تعيدني إلى تحت، فصلت عني طفلتي وأعطتها بيد أحد الملائكة ثم رمتني لوحدي على خزان الماء العالي المجاور للجسر وبالضبط فوق أحد أعشاش القبرات المهجورة وطلبت مني أن أرى ماذا ستفعل بعد ذلك.
لقد جعلتني تلك الطائرات أرى قذائفها الباقية وهي تتناهش أوصال الجسر ككلاب جائعة شرسة وجعلتني أرى بقية العابرين مثلي وهم يرتفعون إلى أعماق السماء جماعة تلو جماعة وجعلتني أرى دماء النذر وهي تتدفق باتجاه الغيوم الرمادية المندلعة فتصبغها بلون أحمر سيجعل مطرها الآتي بعد قليل مطراً من دم، ثم جعلتني أرى الجسر والأجساد التي طارت معه، وهي تهبط جميعاً مرة واحدة في قعر النهر البارد وتظل هناك إلى أن يرفع الحطام الراكد فوقهم بعد سبع سنوات.
لقد كانت طائرات مسعورة جداً لم يغادر زئيرها أسماعي لحد الآن غير أنها غادرت عيني منذ تلك اللحظة وما عدت أرى لها وجوداً في الفضاء الذي أمامي رغم أن جروح شظايا لا تزال إلى هذا اليوم تسرب مني دماء غزيرة لا زالت تصبغ ماء النهر منذ سبع سنوات مائية.
إن دمائي التي تسقط الآن، لا تسقط من أوردتي، وإنما من صدري الممزق على طفلتي أيضاً، فأنا أجهل إلى حد هذه اللحظة حال جسدها، هل انطفأت حماه أم لا تزال متقده؟..
إنني أنادي على الملائكة التي أخذتها مني في كل شروق، وكل غروب، سائلاً إياها عن نارها، إلا أن الملائكة ترد عليَّ! بابتسامة فقط بدون أن تقول لي ماذا تعني تلك الابتسامة!..
هل إن الملائكة لا تستطيع الكلام، أم أنها لا تفهم من لغة القبرات شيئاً؟
إن الذي ينبعث من قمة خزان الماء يومياً هو صوتي أنا وليس صوت القبرات، صوتي الذي ينبعث من أعماق أبوتي المتلوية ألماً على طفلتي الوحيدة. تلك الطفلة التي لا يزال سعير حرارتها يحرق خدي بعنف رغم برودة تراب قبري.
1998.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
http://skikda.mountada.biz/
mohamed
مشرف منتدى الأدب العربي
مشرف منتدى الأدب العربي
mohamed


ذكر
عدد الرسائل : 63
العمر : 37
العمل/الترفيه : مرح
مدينتك : سكيكدة
نقاط التميز : 32
تاريخ التسجيل : 02/11/2008

أيام العبير حسن عبد الرزاق **قصص قصيرة Empty
مُساهمةموضوع: أيام العبير حسن عبد الرزاق **قصص قصيرة   أيام العبير حسن عبد الرزاق **قصص قصيرة Emptyالأحد ديسمبر 07, 2008 10:07 pm

زيارة الطائر الأخضر





كانت على السطح تنشر الغسيل منذ أربعة عشر سنة متواصلة حين رن جرس الدار الخالية إلا منها في تلك الساعة الغروبية.
مشت نحو الشرفة بتثاقل ومدت بصرها من الحافة العليا وحدقت بالأرض. كان بينها وبين العتبة الخارجية حديقة صغيرة بقّعها تشرين ببعض من صفرة موته، وفي الحديقة شجرة لبلاب غطت الجانب الداخلي للسياج الخارجي.
اعترض بصرها النازل إلى العتبة منظر طير أخضر صغير وقف بوداعة على أحد أغصان اللبلاب، كان طيراً هلامياً لم تستطع تحديد شكله تماماً، استطاع أن يشغلها عن النظر إلى الطارق وكاد أن يستمر انشغالها به طويلاً لولا الرنين الثاني الذي نبهها إلى العتبة.
ـ من؟
هتفت بصوت ضاع منه غنجه العشريني وغادرته رقته الموسيقية فرد الزائر.
ـ أنا!..
ـ ومن أنت.
ـ خالد.. خالد ابن خالتك يا صابرين.
لم تصدق ما سمعت، وحالاً اتهمت الغروب بذلك، فهذا الجزء من النهار هو منبع الجن، وياما وقفت هذه الكائنات في أماسي فصول الخريف والشتاء الماضية على حافة خيالها وادعت أنها خالد ثم انكشف كذب ادعائها وفرت في غيهب المساء تاركة في صدرها مرارة الخذلان التي تضيف إلى الليل قتامة لا تطاق.
تحركت بحذر نحو حافة الشرفة المتعامدة مع الباب وتمسكت بحديدها ومدت نصف جسدها إلى الأمام وتفرست بالمتكلم عمودياً.
كانت قامته هي قامة خالد نفسها وشعره هو شعر خالد نفسه، وابتسامته التي ارتفعت نحوها ابتسامة خالد نفسها، لكن الأمر الذي أكد لها أنه هو فعلاً وليس جنياً من الجن، هو تلك البدلة الكاكية التي كان يرتديها في آخر زيارة لهم عند انتهاء إجازته الدورية قبل أربعة عشر عاماً حيث التصقت تلك البدلة في ذاكرتها بشكل غريب.
طارت من على الشرفة فوراً، وخلال ثوان خارجة عن الوجود وجدت جسدها ملتصقاً بجسده وذراعاها تضربان حول عنقه طوقاً يضيق عليه الأنفاس بعض الشيء.
كان المساء التشريني يصبغ الوجود بلون سنجابي وكان ذلك اللون يُضيّع الكثير من ملامح الوجوه غير أن وجه خالد الماثل في ذاكرتها دائماً، أطل على عينيها بكل تقاسيمه السمر وكأن مصباحاً من السماء قد أضاءه لها بالكامل.
ـ خالد... أين كنت طوال هذه السنوات؟
كان في صوتها جفاف دهشة يحبس نصف الحروف فيجعل سؤالها مؤثراً بشكل يثير الشفقة.
ـ كنت هناك يا صابرين.
ـ هناك أين؟
ـ في الأرض التي لم تطأها قدم!..
ـ وأية أرض هذه؟
ـ هي أرض الله بالتأكيد، ولكن على العموم لا تشغلي بالك بها، فأنا قد جئت من أجل أمر آخر.
كان يكلمها بنبرة هادئة ويداه تجاهدان لفك طوقها من حول رقبته، لا من أجل تنظيم أنفاسه فحسب بل من أجل التخلص من ذلك المشهد قبل أن يراهما أحد ما وهم فيه.
سمعا خشخشة في شجرة اللبلاب جاءت من مكان الطائر الهلامي الأخضر نفسه فتذكرت هي شكله الغريب الذي كانت قد رأته قبل دقائق قليلة لكنها لم تلتفت نحوه على العكس من خالد حيث زاغت عيناه عن وجهها واتجهت إلى شجرة اللبلاب.
ـ خالد ماهو الأمر الذي جئت من أجله؟
سألته بلهفة ويدها تعيد وجهه الشاخص إلى الطير نحو وجهها، فوسع خالد ابتسامته الوديعة التي استقبلها بها ورد عليها برقة:
ـ لقد جئت لأقدم حلقة خطوبتنا.
ثم أخرج من جيبه حلقة ذهبية وأخذ يقلبها أمام بصرها.
إنها سنوات طويلة تلك التي مرت على آخر حديث معها بخصوص الخطوبة، سنوات صار عددها الآن أربع عشرة، وهو عدد كاف جداً للنسيان لكن خالداً لم ينس مطلقاً فقد كانت ليالي صابرين الخاوية تمر على روحه مسافة من ألم قاس يحيل ساعات رقدته السندسية إلى سهر ملتاع. لقد كان يسمع زفرة حزنها عن بعد ويتبلل بدموع خذلانها التي طالما انسكبت في ليالي المواسم الموحشة الباردة.
سادت بينهما دقيقة صمت مكتظة بكلام العيون. إنه أمر صعب التصديق بالنسبة لها حيث أنه دخل منذ زمن بعيد في جوف المستحيل.
لكن خالداً حطم ذلك الجوف عندما أمسك ببنصرها الأيمن وأدخله في فتحة الحلقة الذهبية مع كلمة الاعتذار التالية:
ـ لقد تأخرت كثيراً يا صابرين، لكني عدت إليك رغم كل شيء، عدت لا من أجل أي شيء سوى أن أوقد بصيصاً قليلاً في حلكة أيامك التي روعني ظلامها.
لم تعرف صابرين بماذا ترد فثمة ذهول هائل جاثم على لسانها وشفتيها وثمة ارتعاش غامض يأكل جسمها.
لقد وضعها خالد في منطقة ضاعت فيها ملامح الحقيقة والخيال وتركها فاغرة الفم تحدق في وجهه الباسم الوديع بذهول.
ـ خالد هل عدت من أجل هذا فقط؟
ـ نعم.
ـ وتتركني بعد ذلك؟
ـ ليس الأمر بيدي. إن أمري صار منذ أربع عشرة سنة بيد هذا الطائر المستكين على اللبلاب.
صفق الطائر الأخضر الهلامي بجناحيه صفقة خفيفة حين سمع كلام خالد، ثم غادر اللبلاب بعد أن أحدث فيه خشخشة خفيفة ماراً من فوق رأس خالد تماماً.
ابتسم هو لطائره، وبهدوء ورقة سحب جسده من بين ذراعي صابرين ثم استدار نحو أفق الأفول وانطلق وراءه بركضة متسارعة ما لبثت أن أصبح مسارها عمودياً حيث ارتفع خالد في الهواء ليغوص مع طائره في جوف السماء إلى الأبد.


1998
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
http://skikda.mountada.biz/
mohamed
مشرف منتدى الأدب العربي
مشرف منتدى الأدب العربي
mohamed


ذكر
عدد الرسائل : 63
العمر : 37
العمل/الترفيه : مرح
مدينتك : سكيكدة
نقاط التميز : 32
تاريخ التسجيل : 02/11/2008

أيام العبير حسن عبد الرزاق **قصص قصيرة Empty
مُساهمةموضوع: أيام العبير حسن عبد الرزاق **قصص قصيرة   أيام العبير حسن عبد الرزاق **قصص قصيرة Emptyالأحد ديسمبر 07, 2008 10:09 pm


خميس المقهى

توقفت الحرب، وطلع آذار من شتائها وراحت ريشته الخضراء ترسم الحياة وسط الحطام الذي أحدثته القذائف، فعادت الأقدام تمارس حركتها وتطرد بوقعها وحشة الشوارع الفارغة، تلك الشوارع التي انتشرت الحفر على أجسادها كعضات كلاب سائبة.
تحامل على إرهاق السنوات الستين، وخرج من بيته كالغير، وصعد سيارة الأجرة بعد تزاحم شوه هندامه وتركها تتجه به إلى مركز الناحية التي تبعد عن مركز المدينة بمسافة ثلاثين كيلو متراً.
كانت الأربعون يوماً الماضية من حياته بعيدة جداً عن الحياة.. يحاصرها ليلاً رعب الطائرات والإذاعات، وتهدمها نهاراً الوجبات اليومية المتكررة ثلاث مرات (خبز شعير وطماطه) فقط.
ولم يكن الموت هو الذي يخيفه فسنوات حياته الماضية دفتر حروب، كل سطر فيه يتوهج بأحمر الدم وبريق الانفجارات، لكن الرحيل بدون رؤية وجه (زكية) هو الذي جعله يستمهل السماء لدى كل غارة جوية تحصل ويطلب عطفها عليه.
وقد استجابت له السماء ومطت عمره حتى وصل هذا اليوم، وهاهي السيارة التي نقلته من المدينة تنهي المسافة وتدخل الناحية التي تسكن فيها الحبيبة وينزل قلبه في اللحظة التي توقفت بها ليركض مسابقاً عقرب الساعة من أجل الوصول في الموعد المقرر.
كان الشارع المؤدي إلى المقهى الوحيد في هذه البلدة الصغيرة طويلاً.. أطول من عمر الدقائق المتبقية، وزكية مضبوطة جداً في موعدها هذا بالذات، إذ أنها ستمر في الوقت المعتاد وهو الساعة الثالثة عصراً من أمام المقهى وترسل نحوه نظرتها المتفق عليها، وعندما لا تجده جالساً على أحد التخوت الخارجية كالعادة، فسوف تغوص في السوق القريب مصطنعة التبضع ولم تتبضع، بل سيدور السوق في رأسها... تدور الكرة الأرضية كلها... وعندما ترجع في نفس المسار بعد نصف ساعة ولم تجده جالساً أيضاً، ستتيقن بأن الحرب قد أخذته منها إذ لابد وأن قصف بيته كما قصفت الكثير من البيوت الآمنة، عندها سيدور رأسها بعنف أشد، وتتفجر صرخة المفجوع في صدرها فيفتضح السر الذي ظل مكتوماً عن جميع الناس لمدة أربعين سنة هي فترة حبهما الطويل والمتجدد.
(لا زلت حياً يا زكية، وحبنا الذي لم يقتله لا الزمن، ولا الحظ الذي جعل كلاً منا يرتبط بآخر سواه، لا يزال حياً هو الآخر... يتدفق من قلبي كأمواج نور تتدفق من ينبوع ضوء. لم تأكلني الحرب بعد، ها أنذا أعود إليك حاملاً أسفي لانقطاعي عن الإيفاء بالموعد لمدة ستة أسابيع هي عمر تلك الحرب القاسية، أعود لنستأنف حبنا، هذا الحب الذي منذ أن رحلت عن المدينة قبل عشر سنوات قررنا أن نتبادله بالنظرات فقط في عصر كل يوم خميس).
كانت الهواجس تركض في رأسه مع خطواته، وساعته تقفز نحو عينيه كل بضعة أمتار. لم يكن أمام خياله سوى مشهد واحد فقط يأمل أن يتكرر هذا اليوم مثلما كان يتكرر في الخميسات التي سبقت الحرب:
(هو جالس على أحد التخوت الخارجية للمقهى يذوب السكر أو يحرق السيكارة وهي تنعطف نحو السوق في الساعة الثالثة تماماً متهادية، كما كانت في شبابها، بغنج حمامة ريفية، حاملة كيس التبضع وقد استخدمته للتمويه على زوجها وأولادها الكبار. ترشقه بنظرة اشتياق أسبوعٍ بأكمله فيرد هو بأخرى فيها عطش عمرٍ بحاله، ثم تمضي نحو السوق لتعود بعد نصف ساعة وتتكرر النظرة ذاتها وترحل بعدها إلى دارها وينهض هو قافلاً إلى المدينة وأمل اللقاء في المكان نفسه، يتوهج في صدريهما العجوزين بقوة).
انتهى الشارع ووصل متأخراً عن العقرب بأربع دقائق وطار بصره فوراً نحو الركن القصي حيث تقع المقهى.
كان توقعه الأقوى هو أن يجد التخوت الخشبية ممتدة على طول الرصيف كما كانت قبل الحرب وقد تقلص الآن عدد جلاسها بسبب تناثرهم في أصقاع الأرض هرباً من قنابل الطائرات، ومن داخلها تتصاعد بعض أصوات الشباب وهم يلعبون النرد، في حين جلس صاحبها المتجهم الوجه جلسته اللقلقية المألوفة، سانداً رأسه على ركبته المثنية فوق الكرسي وقد تضخم عبوسه بسبب انحسار الزبائن وارتفاع سعر السكر.
لكن عينيه لم تجد كل ذلك، بل أبصرتا ركاماً هائلاً من الحجارة والحديد ونثار الاسمنت وقد احتل التخوت الخشبية وامتد إلى الأمام حتى رأس الشارع.
رن صدره بعنف كأن قذيفة مباغته ضربته، وانهارت حيويته الرياضية مرة واحدة، وشعر باستحالة ساقيه إلى قصبتين هشتين لا طاقة بهما لحمل جسده العجوز، فانحرف بالكاد جانباً، وعلى الرصيف العتيق رمى بجسده اللاهث وغاص في عالم من فراغ.
بعد نصف ساعة قضاها مركوماً على الرصيف تتفرسه عيون المارة بعطف أو فضول انكشف فراغ العالم عن قامة زكية.
كأن كيس التبضع في يدها خالياً، يتأرجح بانكسار، وفوق وجهها الذي لم يشيخ بعد، انتشر اصفرار الأقوال مطرزاً بتجاعيد حزن حصل وسيحصل أيضاً في آتيات الأيام.
نهض مذهولاً، وبصدر متضارب المشاعر هرول مقترباً منها.
كان في بلعومه غصة مرة، وفي جسده ارتجاف مخيف يفتت بقايا قوته التي ياما صارعت الزمن.
فتح فمه المصطك لكي يحرك لسانه بالسؤال، لكن السؤال تجمد في الحنجرة حين شاهد زكية وقد أخذت بالتراجع عنه إلى الوراء، مبتعدة إلى أعماق الأنقاض، تاركة عينيها معلقتين أمامه في فضاء الشارع وقد تحولتا إلى ساعتين قديمتين توقفت عقاربهما على الثالثة تماماً من عصر الخميس الأول للحرب.
1996.
****

الوجه الذي بقي

حين دهمني صوته ذي اللهجة البصرية مروجاً لبضاعته الصيفية، استيقظ في ذاكرتي حالاً وجهه الفتي، ذلك الوجه الذي قاسمني رهبة الموضع الأول في بواكير الحرب.
أوقفت خطواتي المتسارعة نحو غايتها الرسمية، وحرفت نظري صوب مكانه، وحدقت فيه للحظة من أجل التأكد ثم تقدمت باتجاهه وخدر المفاجأة جعلني كالماشي على أرض من إسفنج.
زمان طويل ذلك الذي فصلني عنه... زمان تضاعف حداً في مدته حتى صار دهوراً طويلة، لكن الزمان ذلك، لم يفصل وجهه عن شاشة ذاكرتي، ولم يفصل اسمه عنها، ولا أحداث حياته العائلية بكل تفاصيلها، تلك الأحداث التي طالما سردها على طوال الشهرين الساخنين اللذين عشناهما معاً تحت سقف الحرب ولم نعش غيرهما بعد ذلك بسبب انتقالي بعيداً عنه إلى وحدة عسكرية أخرى.
وقفت قبالته وعبر وعاء اللبن الذي وضعه أمامه للبيع، أرسلت سلامي بدفء أخوي:
ـ غالب، كيف حالك؟
كان في صوتي اشتياق مرتعش من فرط المصادفة العجيبة وفي عيني فيض مودة جعله يبدل ذهول نظراته التي قابلني بها، بإلفة لذيذة، قبل أن يرد عليّ:
ـ بخير...
ـ هل تتذكرني؟
ـ.........
ـ غالب... هل تتذكرني... أنا فيصل غريب.
لم يرد بالنفي ولا الإيجاب، وإنما رد بنظرة متسائلة حفزتني إلى تقديم نفسي له بصورة أوضح واضعاً في حسابي أن الفترة التي فصلت وجهي عنه كانت طويلة جداً، وإن الذاكرات لا تتشابه من ناحية القوة:
ـ غالب... أنا فيصل غريب... الجندي الذي عاش معك في مواضع الجبهة أيام الحرب الأولى... فيصل الذي كنت تناديه باسم فيصل الدليمي.
طفح على وجهه تعبير حزين وهو يستمع إلى هذا الإيجاز، لكنه لم يرد عليّ وظل يحدق بي فعرفت أنه ينتظر تفاصيل أخرى.
في تلك الأثناء، تنبهت لأمر مهم أنستني إياه دهشة المفاجأة الأولى، فغالب هو غالب.
إذ لم يتغير أي شيء من ملامحه، لا طراوة الوجه، ولا سواد الشعر، ولم يكبر فيه أي شيء على الإطلاق وكأن أقدام الحرب لم تدس على سنوات عمره وإنما جانبتها تماماً وتركتها على حالها.
شعرت بعرق الخجل يبلل وجهي فوراً، وصبغت بشرتي حمرة ساخنة فقررت إنهاء اللقاء باعتذار للشاب، وسحب أقدامي من مكانها والولوج سريعاً داخل زحمة السوق.
ـ عفواً.. أعتذر.. لقد اختلطت عليَّ الوجوه، فقد خلتك أحد أصدقائي القدامى.
ـ وما اسم صديقك هذا؟...
سألني الشاب وفي صوته نبرة لينة، كأنها تريد أن تنتزع مني الاسم لتعلن عن أمر خفي:
ـ غالب عبد الحسين... شاب له ملامحك نفسها تقريباً، وهو من البصرة أيضاً قلت له ذلك تحت سطوة الخجل، واستدرت لأبتعد عنه.
تغطى وجه الشاب بالحزن الجليل الذي سمعت عنه كثيراً ولم أره إلا هذه المرة، ووجدت جوابي يوقظ في عينيه دمعتين نائمتين منذ سنوات طويلة، وقبل أن يدع كياني يغيب عنه، رمى على مسامعي جواباً جعلني أتسمر في مكاني، ثم جعل وقوفي يستمر طويلاً إلى أن دار الزمان ثماني عشرة دورة إلى الوراء، عارضاً عليَّ خلالها مشاهد عنيفة لسماوات من شظايا وأرض من نار... نار حامية ياما أكلت من الأجساد التي واجهتها، ثم عاد ليدور من جديد ليعيدني إلى مشهد الحياة الجديدة.
لقد فاجأني ذلك الشاب بجواب علقني بين الألم والفرح... جواب جعل إحدى عيني تسكب أمواج حزنها فتتضبب الأرض والسماء، والأخرى تستقبل ينبوعاً من ضوء صاف رقيق غاب بسببه ظلام الحرب الدامس الذي استوطنني طويلاً، إذ قال لي وهو يخطو نحوي من وراء وعاء اللبن الذي كان يرتزق منه ثم يمد يده ليصافحني:
ـ لم تخطِئ العنوان يا عم، ولكنك أخطأت الاسم فقط، فأنا لست غالب، وإنما أحمد، الابن الوحيد لغالب عبد الحسين. وأعتقد أنك سمعت باسمي من أبي لأن أمي تقول باستمرار: لم يكن لأبيك من حديث أثير لنفسه سوى الحديث عنك منذ لحظة ولادتك وحتى رحيله في السنة الثانية من الحرب لأنك كنت صورة طبق الأصل منه.



1998
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
http://skikda.mountada.biz/
mohamed
مشرف منتدى الأدب العربي
مشرف منتدى الأدب العربي
mohamed


ذكر
عدد الرسائل : 63
العمر : 37
العمل/الترفيه : مرح
مدينتك : سكيكدة
نقاط التميز : 32
تاريخ التسجيل : 02/11/2008

أيام العبير حسن عبد الرزاق **قصص قصيرة Empty
مُساهمةموضوع: أيام العبير حسن عبد الرزاق **قصص قصيرة   أيام العبير حسن عبد الرزاق **قصص قصيرة Emptyالأحد ديسمبر 07, 2008 10:13 pm

غيمة ضائعة وراء الشمس





خافت الخطوات مر من أمامها متجهاً نحو منزله الواقع خلف الشمس. هرولت وراءه بشوقها الطويل، غير مكترثة بوخزات العاقول لقدميها، حيث إن مافي القلب من لهفة إليه أطغى من ألم كل شوك الدنيا.
لم تناد عليهِ. إن الوقت غروب، وهو مطرق الرأس كعادته وأي صوت يداهمه من الخلف قد يجعله يجفل وهي لا تريد لقلبه المرهف الشفاف أن يناله أي أذى حتى ولو كان أذى الاشتياق.
كان الريف يتدثر بصمت المساء، وحولها في الأرجاء الشاسعة لا يوجد سوى قطيع الخراف وسوى رجل وامرأة منفردين بين الحشائش.
شعرت بالوجيف يتصاعد من قلبها كلما ضاقت المسافة بينهما. إن كل خطوة تقربها منه ترفع إلى ذاكرتها دفقة من ذكرياته التي لم تمت أبداً، وتضيع في الوقت نفسه جملة من الكلام الذي ما كانت تتفوه به إلا له وحده، كانت الذكريات تقترب والكلمات تضيع كحبات رمل تتسرب من كف مشلولة، حتى إذا ما صارت المسافة لا مسافة ووقفت قبالته، وجدت لسانها يضيع من فمها هو الآخر، ولم يبق لها من واسطة للكلام معه سوى عينيها.
في تلك الأثناء ما كانت في سماء تشرين غيوم من أي لون. كانت صافية فعلاً، حتى الآفاق ما كانت توحي بقدوم الغيوم، لكن عينيه وقد التقت بعينيها ضخت إلى الوجود سحباً كثيفة ألقت بحزنها الثقيل حالاً على روحها المرهقة، تلك الروح التي ما برحت تكتوي بنار حبه رغم غيابه عنها منذ أكثر من عشر سنوات كاملة.
كانت الغيوم رمادية، لا تدعها ترى اخضرار عينيه الريفيتين ولا تدع نظراته ذات الحلاوة التي تشبه حلاوة شعره أن تصل إلى عينيها.
إن عيونهما التقت كثيراً فيما مضى، أيام كان طالباً في معهد المعلمين وهي طالبة في الدراسة المتوسطة، وقد تركت الدراسة تواً في حينها حتى لا يجرفها التيار بعيداً عن الريف (كما كان يرى والدها)، وفي تلك اللقاءات كان وجهه الوسيم يشتعل بحرارة الانفعال، وتتفتح شفتاه عن كلام لذيذ يتحول مع طول اللقاء إلى شيء يشبه السحر، أما الآن فهو واقف أمامها خالي الملامح وجهه مكتس بلون هذه الغيوم التي انبثقت من مقلتيه:
أرمم روحي
وأحفر فيها الضحك
القلب تهدم منذ مواعيد الصيف
أرحل ثانية صوب شواطئ أخرى
لكني أغرق في عينيك الباسلتين([ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط])
تذكرت هذا الشعر الذي كان يردده أمامها في ساعات انفرادهما القديمة بين هذه الأدغال.. تذكرته رغم أنها لم تكن تفقه من معناه سوى أن روحه محطمة، وإن عينيها تشبهان البحر حيث يغرق فيه هو.
أرادت أن تذكره بأن عينيها لا تزالان بحره هو فقط، لا أحد يعوم أو يغرق فيه سواه وإن السنوات العشر التي فصلتهما عن بعض لم تجفف ينابيع حبه المنسابة في قلبها، لكن كفه اليمنى تحركت نحو فمها بألم المخذولين وأوقفت ماكانت تريد التفوه به عند حدود حنجرتها.
كانت كفه ريشية الملمس، فقدت حرارة الشوق القديم، وفقدت شكل القلم الذي انطبع على أصابعها، ذلك القلم الذي ياما سطرت عواطفه الريفية في حبها أشعاراً رائعة الجمال جلب كلامها من المدينة التي درس فيها.
ـ هادي... هل أنت ساخط عليّ؟...
سألته تحت سطوة ضعف شديد أكل جسدها جراء حركته تلك، ثم رفعت كفيها نحو كفه وأنزلتها من فمها إلى جهة صدرها اليسرى من أجل أن تجعله يلمس دقات قلبها.
لم يرد هادي، ثمة خذلان هائل يجثم على لسانه الآن، وثمة جرس شديد الرنين يعلن في رأسه عن نهايته الفعلية، وإن عليه أن يغادر فوراً هذا الريف بلا عودة لينام إلى الأبد في منزله الواقع خلف الشمس.
كان الغروب يصبغ السماء بلون سنجابي عندما سحب كفه من بين كفيها بمرارة وسار مطرقاً نحو الغياب.
تلفتت في الأرجاء باحثة عن أثر لخياله أو لقدميه، فلم تعثر على أي أثر على الإطلاق، وإنما عثرت فقط على قطيع من الخراف، وعلى الرجل والمرأة المنفردين وحدهما فقط. ولا شيء سوى ذلك.
كانت الخراف تجتر الحشيش بلا توقف، والرجل يجتر الكلام بلا توقف. أما المرأة فما كانت تسمع منه سوى دمدمة مبهمة لا معنى لها لأنها كانت خالية تماماً من حلاوة كلام هادي، تلك الحلاوة التي غادرت سمعها منذ عشرة أعوام.
لقد كانت المرأة طوال جلستها مع هذا الرجل الذي سيصبح زوجها عن قريب تحدق في وجه هادي وفي قامته التي ظلت تروح وتأتي على تراب الطريق، غير عابئة قط بوجود خطيبها إلى جانبها، حتى إذا ما وجدت خياله يغيب عنها. إلى الأبد مخذولاً، نهضت من جلستها فوراً متعللة بقدوم الليل ثم هرولت نحو قطيع الخراف لكي تفتح بين ثغائها المتصاعد مسرباً لنشيج مكتوم لعله يبدد بعض الشيء بعضاً من غيوم هادي التي ظلت جاثمة بلا حراك على روحها التي أحبته بعنف.
1998.
****


أيام العبير

أمتزج عطر شعرها برائحة البستان المحاذية للشارع، فتفشت في كيانه النشوة اللذيذة التي يضيع على إثرها كل الكلام من لسانه.
إنها إلى جانبه بفستانها (الميني جوب) شجرة ورد يانع، يعرش الربيع على كل جسدها ويفتح في رأسه كوى عديدة تتوارد منها الخيالات الرائعة وهو يتمنى أن غيوم الشعر تهطل منه الآن عليها، لكن الشعر أو أي كلام شبيه له يؤجل تهطاله إلى مابعد اللقاء دائماً ولا يجود على لسانه سوى برذاذ كلمات قليلة مثل: (أحبك)، (أنت كل حياتي) وأمثالها من الكلمات التي تستقبلها كل مرة بابتسامة دقيقة ونظرة خضراء تشبه عينيها.
قرب كتفه من كتفها ولصقه فيه، وشبك كفه فتسربت منه إليها حرارة ورعشة جعلتها تتيقن من أنه الآن يطفو على أعلى موجة من درجات الهيام بها.
بادلته الضغط بالكف، ومالت نحوه بحركة غنج وهمست من خلال عبيرها بكلمة: حياتي.
ثم سحبته من الشارع وانحدرت به صوب البستان المكتظ بالأشجار والغروب الخريفي ذي البرودة الخفيفة.
كان قميصه الملتصق بجسده وبنطاله (التشارلستون) يعطيان لجسده رشاقة رياضية، وكان شعره المتدلي بتسريحة خنفسية يضاعف فيه الإعجاب بشبابه وبأحقيته بفتاته الجميلة هذه.
اصطبغ الزمان وهو يمضي معها إلى البستان بلون الورد، وانتشرت فيه حلاوة لا تتكرر، فاستعجل اقتناص دقائق الحب تلك منه، قبل أن تخطفها منه عين متطفلة يدفعها هذا الشارع الطويل الواقع تماماً على حافة المدينة.
وضع كفه الطليقة على ظهرها، وطلب منها بمزاج مقصود أن تسرع خطاها وقبل أن يرى رد الفعل، انطلق مهرولاً أمامها ساحباً إياها برفق شديد خلفه.
في جوف البستان تلقفه بحر من الخضرة ولون الغروب، وضخ إلى صدره شذا معتقاً امتزج مع عطر شعرها وضاعف من نشوته العارمة، فالتفت نحو الفتاة وأراد أن يجذبها إلى صدره بقوة، لكن حارس بناية الشركة، تلك الشركة المجاورة للبستان أجهز على كل شيء عندما أرسل نحوه صوتاً محذراً صارماً من خلال سور البناية ثم أومأ له أن يغادر البستان حالاً ويتجه إليه.
ترك الشاب خضرة البستان والشذا، وترك زمان الورد، وفتاته اليانعة، وبخطوة عرجاء كسرها أحد الألغام قبل عدة سنوات، سار نحو صوت حارس الشركة، ودخل بعد ذلك ثيابه، ثم استدار من السور إلى داخل البناية، ساحباً خلفه شريط هذه الذكرى التي أصبح عمرها الآن ثلاثين سنة، ليعيد عرضه بذاكرته خلال الساعات الطويلة القادمة فيكون سميره الوحيد في الليلة الأولى من عمله كحارس الشركة.


2000


[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]([1]) ـ الأبيات للشاعر رزاق الزيدي.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
http://skikda.mountada.biz/
 
أيام العبير حسن عبد الرزاق **قصص قصيرة
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات سكيكدة (منتدى سكيكدة الأول )  :: منتدى الأدب العربي :: قسم أدب الطفل-
انتقل الى: