السكرتيرة الهاربة
-1-
تعلّقت بي... فأحببتها...
اطمأنت لمعاملتي الطيبة، ولحديثي الودود معها... أصبحت تنتظرني في كل صباح متأكدة في كل مرة أنني أحمل لها في جيب سترتي السوداء شيئاً من الطعام:
((قطعة شوكولا، أو قطعة حلوى...))
إنها جميلة شقراء، وديعة، ناعمة، عيناها كأنهما نجمتان كبيرتان، مشيتها هادئة، متّزنة، تذكّرك ((ببريجيت باردو)) وبعارضات الأزياء في لندن وباريس.
في أيام الصحو، كانت تذهب معي إلى الحديقة المجاورة للشركة التي أعمل فيها، تجلس إلى جانبي تماماً محدّقة في عيني الكئيبتين، فأمد يدي وأداعب وجهها الوديع، ورأسها اللطيف الناعم، فتزداد التصاقاً بي، وكأنها تخاف أن أهرب وأتركها وحيدة.
مسكينة... إنها محرومة من الحب والحنان، والمعاملة الطيبة، وقد وجدت كل هذه الصفات في معاملتي، وحديثي الهادئ واللطيف معها.
-2-
زملائي في العمل وزميلاتي يعرفونها جيداً، معاملتهم لها أصبحت طيبة- بسببي طبعاً- حتى لو أساءت لأحدهم- لا سمح الله- أو ((تعفرتت وتشيطنت)) فإنهم لا يضايقونها ولا يتطاولون عليها، فقط يقولون لها مبتسمين:
((طيبّ.. طيبّ.. هلقّ بيجي صاحبك.. ومنشوف..))
وحين كانت تسمع اسمي تصمت وتخفض رأسها، ثم تخطو نحو الباب، وتنتظر هناك...
حتى المدير، أُعجب بها، وبدأ يتودد إليها... ويعاملها معاملة رقيقة، حسنة- وخاصة جداً- وقد قال ذات مرة إنه سيصرف لها مكافأة...
إنها- بيني وبينكم- لافتة للأنظار، جميلة، رشيقة ((تستاهل)) كل الخير والمحبة.
-3-
قال لي المدير ذات صباح وجهاً لوجه، وكانت صديقتي تقف إلى جانبي تمسح وجهها بثيابي بين لحظة وأخرى:
هل تعرف أن رفيقتك هذه حلوة؟
قلت:
((معلوم بعرف)) أنتم- ما شاء الله- كلما رأيتم آنسة حلوة تلعب عينكم عليها، ما رأيك يا أستاذ لو عينتها سكرتيرة في مكتبك؟!
ضحك المدير وهو يربّت على كتفي:
((مو غلط بنوب)) بدّك الصراحة، لقد فكّرت بهذا الموضوع في اللحظة التي رأيتها فيها..
ويبدو أن صديقتي لم يعجبها كلام المدير، حدَّقت إليه مستاءة، ثم أدارت لنا ظهرها واختفت فجأة من المكتب!
قلتُ:
ولا يهمّك يا أستاذ، سوف أتفاهم معها، وأقنعها بالموافقة...
فضحك المدير بمرح، ثم خرج...
-4-
في الصباح، حضرتُ فلم أجدها...
كنتُ حاملاً لها، هذه المرة، كالعادة، بعض الحلوى والشوكولا...
ناديتُها...
ناديتها أيضاً...
بحثت عنها تحت الخزانة والطاولات والكراسي.. لكنني لم أعثر عليها..