فكّرت أوّل الأمر أن أكتب هذه القصّة بشكل تحقيق أجمع فيه معلومات أوّلية عن الحادثة والرجل المعتدى عليه. ولكنني تذكرت أن معلوماتي عن "أبو حاتم" كافية ولا حاجة لسؤال أحد. أنا أشتري مثلاً منذ عدة سنوات سجائري من دكّانه الواقع في أحد الأزقة المفضية إلى الشارع العام قرب مستشفى "المجتهد" وأولادي يشترون دفاترهم وأقلامهم منها. وكم من مرّة تبادلت وإيّاه الحديث وأنا أتطّلع بإعجاب -ولأعترف أنه إعجاب مشوب أحياناً ببعض السخرية- إلى شاربيه العنتريين المنتصبين كقوسين طرفاهما إلى أعلى باستمرار.
كان من الممكن أن يبدو المنظر عادّياً في الأحياء الشعبية لو كان جسم الرجل أكثر طولاً أو ضخامة. ولكن "أبو حاتم" لم يكن طويلاً، ولاجسيماً، بل كان على العكس تماماً، نحيفاً وأقرب إلى القِصَر. ولهذا السبب كان منظر الشاربين يبدو في النظرة الأولى منظراً نابياً على الجسد القميء، وكثيراً ما كنت أراه منهمكاً في العناية بهما وسط الدكان. ولاريب أن هذه العناية كانت في الدار أطول وأكثر تعقيداً وأنه كان يستخدم لذلك زيوتاً من نوعٍ خاص وإلاّ فكيف كان ممكناً الاحتفاظ بمنظرهما الرائع هذا في كل الأوقات. وأذكر أنني سمعته مرّةً يقول لأحد جلسائه: - الرجل من دون شاربين ليس رجلاً..
فتدخلّتُ بقولي:
- سامحك الله يا "أبو حاتم".. نحن إذن لسنا رجالاً.. فأجاب مُحْرجاً:
- العفو.. أقصد أن الشاربين من أهمّ مظاهر الرجولة وإلاّ لكان الله خلق للمرأة شوارب كالرجل.
وحين أمعنت في مناقشته على سبيل المزاح أجاب مازحاً وإنْ كان في الواقع جادّاً كلّ الجدّ:
- خذ شعر العانة مثلاً.. لقد خلقه الله للرجل والمرأة على السواء ذلك لأنّهما يحتاجان إليه معاً لإخفاء العورة..
كان أبو حاتم يملك إذن منطقه الخاص في الإقناع والدفاع عن قضيّة الشوارب. أما نحن جيرانه من سكان الحارة فقد تعوّدناه. وماذا يضيرنا أن يكبّر الرجل شاربيه أو يصغّرهما مادام بائعاً مستقيماً، ورجلاً مسالماً وديعاً، ومواطناً صالحاً كما يقولون. كان اعتزاز "أبو حاتم" بشاربيه لا يعدلهما إلاّ اعتزاز بولده "حاتم" الذي رُزق به متأخّراً بعد سنوات عقيمة من الانتظار. ويبدو أن الأب كان متعلّقاً بالابن كثيراً، فكان يصطحبه معه إلى الدكان مذ كان في الثالثة من عمره، وهاهو في الثانية عشرة تقريباً يكاد لا يفارقه. يخرج الولد من المدرسة القريبة فيذهب إلى الدكان مباشرة كي يحمل بعض الأغراض إلى البيت ثمّ يعود فوراً ليقضي ماتبقّى من النهار مع أبيه يدرس ويساعده في البيع، ويتغدّيان أحياناً معاً في الدكان إذ كان الطلب على الدكان شديداً، ثم يمضيان بعد صلاة العشاء مباشرة إلى دارهما في الميدان التحتاني كما سمعت.
كان أبو حاتم باختصار رجلاً محبوباً بالرغم من شاربيه العجيبين، كافياً الناس شرّه، لا يمعن في نظره إلى امرأة بالرغم من اعتززه الواضح برجولته. وحين يتجمهر التلامذة الصغار، أمام دكانه الصغيرة كان لا يزعجه على الإطلاق صياحهم وتدافعهم، بل كان يحتفظ بابتسامته الطيّبة مهما كانت الظروف، وعندما يكون شبه وحيد كان المارّة يرونه دائماً مكبّاً على القراءة في سيرةٍ من السير الشعبية، أو في القرآن الكريم، فيلقون عليه التحية، فيردّ بأحسن منها، ويُمّازِحُهُ بعضهم بقوله:
- شو.. لوين وصل عنتر بن شدّاد؟!...
وكان يعرف أنهم يقصدونه، فيمسح على شاربيه الرائعين ويجيب بصوت عال:
- الله مُحَيّ الرجال...