والتفتت دونما كلام مبتسمة نحو أبيها وكأنها تنبّه باعتزاز ضمنيّ أنّ الآخرين كانوا كلهم يُشبهون أباهم. ثم أضافت:
- هذه ليست الأسرة كلّها، فهناك أكبر إخوتي وهو متزوّج وساكن وحده، وأخت متزوجة، أما ترتيبي بينهما فأنا كبرى البنات، والثانية في الترتيب العام...
واستريحوا الآن فقد أتخمتكم اليوم بالدروس والمعلومات وأثقلت عليكم وبقي أن أتخمكم بالطعام الطيب.. ماذا طبخت لنا ياماما؟! استريحوا هنا في الليوان...
وفي دقائق توزّع الجميع يستريحون من عناء المشوار، وكان غسان قد اختار الزاوية الداخلية القصيّة في الليوان حيث استلقى ورفع رأسه وهو يتأمّل النوافذ والخشب المحفور وقد امتلأت نفسه بمشاعر جديدة عليه تماماً.
ماهذا البيت الرائع؟! ومافاطمة هذه الفتاة العجيبة التي تعرف كلّ شيء!.. ولماذا تبدو الآن أجمل الموجودات!...
كانت فاطمة قد أزاحت عن رأسها الغطاء مع دخولها ثم غابت قليلاً وعادت بثوب خفيف لطيف رُسِمَتْ عليه زهور كبيرة ملوّنة وقد نثرت شعرها على كتفيها، فامتزجت صورتها تماماً بهالة الزهور المحيطة بها وبدت فعلاً للجميع ذات جمال خاص ساحر غير متوقع.
كانت تجلس هنا ثواني تلاطف هذا أو تلك، ثم تنتقل خفيفةً كفراشة إلى جوار شخص آخر دون أن تنسى أحداً من ترحيبها وملاطفاتها، ثم تغيب ثواني لتساعد أمها التي بدأت توزّع كنوزها مع أولادها بادئةً بأقداح "الليمونادة" المنعشة والمعطّرة بماء الزهر.
لم تمضِ دقائق حتى بُسطت الطاولات وصُفَّتْ الكراسي ، وشرعت صحون المقبلات تتوارد، ثم "الجاطات" الكبيرة التي كانت تحوي مالذ وطاب من أنواع "الكبّة" النيّئة والمقليّة والمشويّة وباللبنية، وأنواع المحاشي كاليبرق مع السجق والكوسا وفتّة المكدوس، وكان الأب يشرف على التوزيع، والأولاد يتحركون بنشاط بين يديه، وحين رفض الجميع أن يبدؤوا الأكل إلا بحضور الأمّ، أقبلت عليهم وهي ترحّب بوجهها الصبوح البشوش قائلةً:
- حلّفتكم بالله أن تأكلوا. لا تنتظروني... مازال عندي شغل...
ولكنهم أصرّوا، فجلستْ على استحياء، وجلس الأب إلى جوارها إلاّ الأولاد فقد ظلّوا يحومون لخدمة الجميع، وهكذا افتتحت الوليمةّ...
***
حين عاد الجميع إلى بيوتهم مساءً، لم يكن ثمّة شك في أنّهم تغيّروا كثيراً خلال هذه الساعات المعدودة من بعد ظهر ذلك اليوم الذي لن يُنسى. وكانوا جميعاً مدركين تماماً طبيعة هذا التغيّر. أما غسان صالحاني فقد بدا في صبيحة اليوم التالي إنساناً جاداً على غير عادته إذ مرّ الصباح بأكمله دون أن يُطلق من إبداعاته الساخرة أيّة نكتة أو تشنيعة. كان يسترق النظر طوال الدوام إلى "فاطمة عوض" التي عادت كما كانت فتاة عادية، ولكن هيهات.
ذلك إنها لم تعدْ بالنسبة له فتاة عادية على الإطلاق.
وعند انتهاء الدوام توقف أمامها مدفوعاً برغبة لا تُقاوم كي يقول لها كلاماً فكر فيه طويلاً:
- أيّ نوعٍ من النساء أنت يا آنسة فاطمة! وأيّة مدنيّة تلك التي تنتمين إليها! لقد حيّرتني بالأمس وها أنت تحيّرينني اليوم. وأيّة فاطمة يجب أن أرى، ومع أيٍّ منهما يَحْسُن بي أن أتعامل!
كان الآخرون قد وقفوا جميعاً استعداداً للخروج، أو على الأصحّ لسماع جواب الفتاة، وفي الوقت نفسه لا يدري أحد كيف امتلأت الغرفة بعشرات الموظفين، مِمّن حضروا وليمة البارحة أو سمعوا بها وكأنهم بإيعاز واحد جاؤوا كي يشاركوا في الاستماع إليها، وقد نهضت بكل هدوء فأحكمت رباط عقدة "الإيشارب" حول رأسها بحركة عفوية وهي تنظر إلى الحاضرين فرداً فرداً حين استقرّت عيناها السوداوان على غسان الذي ارتعش قليلاً في مواجهة تلك النظرة العميقة الثاقبة، وقد تلامحت من ورائها في الوقت نفسه ظلال ابتسامة محيّرة وهي تقول:
- ليس هناك سوى فاطمة واحدة ياسيد غسان.. ولكي تراني كذلك.. يجدر بك أنت أوّلاً أن تقرّر أي غسان أنت، وإلى أيّ جانب من مدينتك تنتمي، وبعدها لن يبقى بيننا أيّ إشكال على ما أعتقد.
قالت كلامها ثمّ خرجت على الفور، في حين كان الآخرون مايزالون جامدين كأنهم يفكّرون في مغزى ماسمعوه، وحين تحرّكوا وراءها كانت قد سبقتهم بمسافة كافية، حتى لقد خُيّل لموظف الاستعلامات وهو يراقبها تخرج وحدها ومن خلفها موكب الموظفات والموظفين أنه يشاهد مظاهرة غير مألوفة تقودها فتاة يراها لأوّل مرّة في حياته.